السبت، 4 أبريل 2009

الحاكم بامر الله بقلم دكتور محمد عبازة تونس




الحاكم بأمر الله



أمام كتاب المسرح




بقلم
ا.د / محمد عبازه
استاذ دكتور المعهد العلى لفنون المسرح
تونس ميدان بلفدير 2 نهج دانتون 1002



قرأت ثلاث مسرحيات لثلاثة كتاب مسرح معروفين على الساحة المسرحية العربية عن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله ، وبقدر ما استمتعت بهذه المسرحيات الثلاث بقدر ما حفزتني على الكتابة حولها ، كي أقارن بينها وخاصة أنها كتبت من طرف مبدعين من جيلين مختلفين ومن بلدين عربيين مختلفين ، حيث قرأت المسرحية الأولى التي كتبها الأديب المصري الكبير علي أحمد باكثير ووضعها تحت اسم "سر الحاكم بأمر الله"( وجاءت في 152 ص من الحجم المتوسط . والمسرحية الثانية من تأليف الكاتب المصري الشاب السيد حافظ وعنونها ب ( حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله )(1) وقد صدرت في حجم كبير من 118 ص . أما المسرحية الثالثة والتي استوقفتني طويلاً ، قراءة وتدريساً للطلبة فهي مسرحية الشاعر التونسي الأستاذ البشير القهواجي والتي تحمل عنوان (بيارق الله) وقد نشرت في 115 ص من الحجم الصغير.
بعد قراءة المسرحيات استوقفتني شخصية الحاكم بأمر الله ، كما استوقفتني شخصية الحلاج المتصوف المسلم ، من قبل ، وقررت أن أعود إليها في كتب التاريخ ، أي المصدر الذي أخذ منه هؤلاء الكتاب الثلاثة محاولا بذلك الابتعاد عن الخيال المسرحي الذي حلق بالكتاب في سماء القاهرة وعلى جبل المقطم ، والعودة إلى الواقع التاريخي ومساءلته ، كيف صور هذه الشخصية الغريبة والطريفة والثرية ؟ أعتقد أنها لو لم تكن كذلك لما استوقفت كتابنا الثلاثة ، وفعلا بدأت أبحث عن تاريخ الفاطميين ، فبدأت بتاريخهم في تونس ، ثم انتقلت معهم إلى القاهرة ، وكأنني كنت مرافقا لهم في رحلتهم المشرقية ، بحيث أحسست كأنني كنت أسير جنبا إلى جنب مع ابن هانئ الأندلسي صحبة المعز لدين الله قاصدين الفسطاط ونيلها العجيب .
بحثت في كتب التاريخ وخرجت بشبه قناعة أن الحاكم ابن العزيز ابن المعز لدين الله الفاطمي اعتقد أن ابن هانئ الأندلسي كان يمدحه هو ولم يمدح جده المعز بقوله :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنمـا أنت النبـي محمـد وكأنما أنصارك الأنصـار
أنت الذي كانت تبشـرنا به في كتبها الأخبار والأحبار(2)
تأثر الحاكم بأمر الله بهذه الأبيات بعد أن اعتقد أنه المقصود من خلالها فأصيب بداء العظمة أو بجنون العظمة ، لأن كلمة الجنون قد ترددت في النصوص التاريخية كما تكررت العديد من المرات في النصوص المسرحية . إنني أكاد أجزم بأنه قد استمع أو قرأ أبيات ابن هانئ وطبق ما جاء فيها بكل دقة فاختلط عليه الخيال بالواقع والسائس بالمسوس ، وسدة الحكم بصومعة الاصطرلاب والشعر بالفلسفة وعلم الفلك بأوهام التنجيم والتصوف بحلل الحرير والأديان السماوية بالأساطير والخرافات الشعبية والطب بالرعوانيات ، فتاه وضل طريقه وعاش حياه معذبة بين جحيم الشك ونار اليقين فاكتوى بنار التيه والضياع بين القلعة وتأملاتها واصطرلابها ، وبين القاهرة وشوارعها وأزقتها وأناسها البسطاء وبين مياه النيل الجارية المطهرة والأوبئة والأمراض الفاتكة بالبلاد والعباد .
عاش الحاكم يكويه الشك ويلفظه اليقين فاحترقت بجهنم أبيات ابن هانئ ولم تستطع كل مياه النيل أن تطفئها من قلب الحاكم بأمر الله ، فقضي نحبه ولم يهنأ ببرد وسلام ولا أمن بأرض الكنانة ، قضي نحبه ولم يشفي غليله بإجابات وافية عن سر الوجود والكون والإنسان . هذا الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الذي "ولي الخلافة وله إحدى عشرة سنة ونصف ، وقيل عشر سنين ونصف وستة أيام وقيل غير ذلك…"(3) . دوخ الحاكم المؤرخين ودوخ البلاد والعباد من قبلهم ودوخ الأديان جميعها والأنبياء جميعهم فكان هذا الإنسان ، هذه الشخصية التي طبعت زمانها وتاريخها فحيرت الناس مشرقا ومغربا " وكانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام وجبن وإحجام ومحبة للعلم وانتقام من العلماء وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء . وكان الغالب عليه السخاء ولربما بخل بما لم يبخل به أحد قط ، وأقام يلبس الصوف سبع سنين وامتنع من دخول الحمام وأقام سنين يجلس في ضوء الشمع ليلا ونهارا ، ثم عن له أن يجلس في الظلمة مدة . وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى ، وكتب على المساجد والجوامع سب أبي بكر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم "(4) .
ثم تمادى في هذه الأفعال الجنونية التي لم يستطع أحد من معاصريه فهمها ، بل ارتكب أفعالا أكثر غرابة : " وأمر بقتل الكلاب وبيع الفقاع ، ثم نهى عنه ، ورفع المكوس عن البلاد وعما يباع فيها ، ونهى عن النجوم وكان ينظر فيها ونفى المنجمين ، وكان يرصدها ويخدم زحل وطالعه المريخ ، ولهذا كان يسفك الدماء وبنى جامع القاهرة وجامع راشدة على النيل بمصر ومساجد كثيرة ونقل إليها المصاحف المفضضة والستور الحريرية وقناديل الذهب والفضة ، ومنع من صلاة التراويح عشر سنين ثم أباحها وقطع الكروم ومنع من بيع العنب ولم يبق في ولايته كرما وأراق خمسة آلاف جرة من عسل في البحر خوفا من أن تعمل نبيذا ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ليلا ونهارا … ولم يبق في ولايته ديراً ولا كنيسة إلا هدمها .."(5) . روى عنه المؤرخون أخباراً تؤكد هذه الأحداث التي قامت بها هذه الشخصية المتذبذبة والقادرة على الانتقال من النقيض إلى النقيض بسرعة غريبة " كان جواداً سمحاً ، خبيثاً ماكراً ، رديء الاعتقاد سفاكاً للدماء قتل عدداً كبيرا من كبراء دولته صبراً ، وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أموراً وأحكاماً يحمل الرعية عليها ، فأمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع … وأذن إلى النصارى الذين أكرههم إلى الإسلام في الرجوع إلى الشرك ، وفي سنة أربع وأربعمائة منع النساء من الخروج في الطريق ، ومنع من عمل الخفاف لهن ، فلم يزلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتى مات ."(6)
منع النساء من الخروج وقتل أعدادا كثيرة من الخلق، نساء ورجالا ، عامة وعلماء ، وأمر بإعادة إعمار الكنائس التي كان قد أمر بهدمها في نوبة من نوباته الهستيرية . ولكن مقابل هذه النوبات العنيفة والجنونية تعتريه لحظات صفاء فينتصر للمظلوم ويسمع الضعيف : " كان الحاكم يواصل الركوب ليلا ونهارا ، ويتصدى له الناس على طبقاتهم فيقف عليهم ويسمع منهم فمن أراد قضاء حاجته قضاها في وقته "(7)
كان تصرف الحاكم أرعن يدل على عدم مسؤولية إن لم يكن على جنون . فقد أشعل حرباً أهلية في القاهرة وغذاها وتفرج عليها فقارب نيرون : " ونزل في قصره واستدعى القواد والعرفاء وأمرهم بالمسير إلى مصر وضربها بالنار ونهبها وقتل من ظفروا به من أهلها فتوجه إليها العبيد والروم والمغاربة وجميع العساكر . وعلم أهل مصر بذلك فاجتمعوا وقاتلوا عن نفوسهم وأوقعوا النار في أطراف البلد ، فاستمرت الحرب بين العبيد والعامة والرعية ثلاثة أيام والحاكم يركب في كل يوم إلى القرافة ويطلع إلى الجبل ويشاهد النار ويسمع الصياح ، ويسأل عن ذلك فيقال له : العبيد يحرقون مصر وينهبونها فيظهر التوجع ويقول لعنهم الله من أمرهم بهذا ؟ "(8).
تمرد الأكراد والمغاربة وناصروا المصريين ، لم يبق من يؤيده إلا العبيد ، وكثر احتجاج الناس عليه من هذه التصرفات الجنونية : " فأجابهم بأنه ما أراد ذلك ولعن الفاعل له والآمر به وقال : أنتم على الصواب في الذب عن المصريين وقد أذنت لكم في نصرتهم والإيقاع بمن تعرض لهم . وأرسل إلى العبيد سراً يقول : كونوا على أمركم وحمل إليهم سلاحاً قواهم به … "(9) .
فمات خلق كثير وأحرق جزء من القاهرة وهتكت الأعراض وسبيت النساء واغتصبت وبيعت في سوق العبيد ونهبت الأموال بعد أن أمر الحاكم بإيقاف المذبحة . يبدو من خلال هذه الأحداث أن الحاكم كان يرغب في إضعاف كافة الفرقاء في الجيش الفاطمي ، من جهة ، والمصريين من جهة أخرى ، لأنهم تطاولوا عليه بالكلام البذئ والعبارات النابية التي كانوا يلقونها أمامه في قراطيس مطوية .
لم يكتفي بعملية الحرق وإشعال الحرب الأهلية ، بل ذهب إلى أكثر من ذلك : " ثم عن له أن يدعي الربوبية وقرب رجلا يعرف بالأخرم ساعده على ذلك وضم إليه طائفة بسطهم للأفعال الخارجة عن الديانة … وسلموا للقاضي رقعة فيها فتوى وقد صورت باسم الحاكم الرحمان الرحيم … وشاع الحديث في دعواه الربوبية وتقرب إليه جماعة من الجهال فكانوا إذا لقوه قالوا : السلام عليك يا واحد يا أحد ، يا محيي يا مميت ، وصار له دعاه يدعون أوباش الناس ومن سخف عقله إلى اعتقاد ذلك فمال إليه خلق كثير طمعا في الدنيا والتقرب إليه . وكان اليهودي والنصراني إذا لقيه يقول : إلهي قد رغبت في شريعتي الأولى فيقول الحاكم : افعل ما بدا لك فيرتد عن الإسلام "(10).
اعتقد صاحب كتاب ( النجوم الزاهرة ) أن ادعاء الربوبية ساعده عليه مشعوذ درزي وفد على القاهرة واتصل بالحاكم وألف له كتابا في تناسخ الأرواح وأكد له أن روح آدم حلت في علي بن أبي طالب وروح علي انتقلت إلى المعز وروح المعز انتقلت إليه ، وحاول هذا المشعوذ قراءة الكتاب في المسجد على الناس فأنكروا قوله وكادوا يقتلونه وهرب إلى بلاد الشام " وأباح لهم شرب الخمر والزتا… واقام عندهم يبيح لهم المحظورات "(11) .
تعددت شطحات الحاكم وأصبحت على كل لسان عند عامة الناس وخاصتها: " إن الحاكم لما بدت عنه هذه الأمور الشنيعة استوحش الناس منه وكان لها أخت يقال لها ست الملك من أعقل النساء وأحزمهن فكانت تنهاه وتقول له : يا أخي احذر أن يكون خراب هذا البيت على يديك ، فكان يسمعها غليظ الكلام ويتهددها بالقتل ، ويعث إليها يقول : رفع إلي أصحاب الأخبار أنك تدخلين الرجال إليك وتمكنينهم من نفسك "(12)
وضاقت أخته ست الملك ذرعاً بأفعاله الشنيعة فقررت التخلص منه واتصلت بقائد عسكر البربر وشيخ كتامة سيف الدولة ابن الدولة ابن الدواس " قد جئت في أمر أحرس به نفسي ونفسك والمسلمين ولك فيه الحظ الأوفر وأريد مساعدتك فيه… وقد انضاف إلى ذلك تظاهره بادعائه الألوهية وهتكه ناموس الشريعة وناموس آبائه وقد زاد جنونه وأنا خائفة أن يثور المسلمون عليه فيقتلوه ويقتلونا معه وتنقضي هذه الدولة أقبح انقضاء . فقال سيف الدولة : صدقت يا مولانا ، فما الرأي ؟ : قتله ونستريح منه… "(13)
وأما مسألة القتل فقد جاءت في ثلاث روايات مختلفة :
الرواية الأولى أنه اختفى . وجاءت عند المؤرخ الذهبي في كتابه تكملة تاريخ الإسلام
" واتفق أنه خرج ليلة في شوال سنة احدى عشرة وأربعمائة من القصر إلى ظاهر القاهرة فطاف ليلته كلها ، ثم أصبح فتوجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان فرد أحدهما مع تسعة من العرب السويديين ثم أمر الآخر بالانصراف ، فذكر أنه فارقه عند قبر الفقاعي فكان آخر العهد به الحاكم"(14)
أما الرواية الثانية فتتمثل في أن سيف الدولة ابن الدواس قد انتدب اثنين من خبرة عبيده وبالتعاون مع ست الملك لقتل الحاكم " إنها نوبة الحاكم في الركوب وهو ينفرد ولا يبقى معه إلا القرافي الركابي وربما رده ويدخل الشعب وينفرد بنفسه فاخرجا عليه فاقتلاه "(15)
وفعلا تمت عملية القتل حسبما وقعت برمجتها مسبقا بين ابن الدواس وست الملك . وقد كمن العبدان الأسودان له وقد قرب الصباح – فوثبا عليه وطرحاه إلى الأرض ، فصاح : ويلكما ماذا تريدان ؟ فقطعا يديه من رأس كتفيه وشقا جوفه وأخرجا ما فيه ولفاه في كساء وقتلا الصبي وحملا الحاكم إلى ابن الدواس بعد أن عرقبا الحمار فحمله ابن الدواس مع العبدين إلى أخته ست الملك فدفنته في مجلسها وكتمت أمره "(16)
وبخصوص الرواية الثالثة وهي التي أوردها صاحب كتاب النجوم الزاهرة عن القضاعي " خرج الحاكم إلى الجبل المعروف بالمقطم… فطاف ليلته كلها وأصبح عند قبر الفقاعي فبينما هم كذلك بصروا بالحمار ( حمار الحاكم ) الذي كان راكبه على قرن الجبل وقد ضربت يداه بسيف فقطعتا ، وعليه سرجه ولجامه فتتبعوا الأثر فإذا أثر راجل خلف أثر الحمال وأثر راجل قدامه فقصوا {الأثر} حتى أتوا إلى البركة التي شرق حلوان فنزلها بعض الرجالة فوجد فيها ثيابه (الحاكم) ، وهي سبع جباب مزررة لم تحل أزرارها وفيها أثر السكاكين فتيقنوا قتله ، وكان عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر وولايته إلى مصر خمسا وعشرين سنة وشهرا واحدا .. "(17)
هذه شخصية الحاكم بأمر الله حسبما جاءت في كتب التاريخ واكتفينا بكتاب (النجوم الزاهرة) الذي ارتأينا أنه لخص الكتب التي سبقته (كوفيات الأعيان) لابن خلكان و(تاريخ بغداد) للمقريزي و(البداية والنهاية) لابن كثير و(تاريخ دمشق) لابن عساكر و(تاريخ الإسلام) للذهبي و(المؤلف والمختلف) للإمام الحافظ عبد الغني بن سعيد أبو محمد المصري و(كتاب التاريخ) لابن الصابئ و(كتاب التكملة) للكندي… الخ. وكانت هذه الصورة التي وصلتنا عن الحاكم بأمر الله نختصرها في الآتي : "وكان يحـب العزلـة ـ يعني الحاكم ـ ويركب على بهيمة وحده في الأسواق ويقيم الحسبة بنفسه وكان خبيث الاعتقاد ، مضطرب العقل . يقال إنه أراد أن يدعي الإلوهية وشرع في ذلك.."(18)
هذا هو الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي الثالث بعد المعز والعزيز والذي أثبت وأجمع المؤرخون على أن شخصية الحاكم اتسمت بالغرابة فاستهوت كتابنا المسرحيين الذين أعادوا إليها الحياة عن طريق المسرح من خلال النصوص الثلاثة التي سنتحدث عنها لاحقا . كان الحاكم شخصية مضطربة فخلده المسرح ، وهو ليس الوحيد في تاريخ الإنسانية ، فأمثاله كثيرون ، فنيرون وكاليغولا ومراد الثالث ، عاد إليهم كتاب المسرح مثل جان راسين وألبار كامو والحبيب بولعراس وصوروهم في أعمال مسرحية خلدت أسماءهم أكثر من كتب التاريخ .
كان الحاكم بأمر الله شخصية اشكالية Problematique في التاريخ العربي الإسلامي والتاريخ سلسلة من المنعرجات ظهرت فيها مثل هذه الشخصيات كالنتوءات التي حيرت الجيولوجيين والشعراء ربما لأنهم عبروا عن مفترق الطرقات في مسيرة الإنسانية نحو التحرر والانعتاق.
عاد الكثير من الكتاب المسرحيين إلى شخصية الحاكم بأمر الله وحاولوا أن يوظفوها مسرحيا وسوف نحاول ـ من خلال تحليلنا للأعمال التي ذكرناها آنفا ـ أن نقارن أولا بين هذه الأعمال من حيث لغتها وأسلوبها وشخصياتها وأحداثها ، وثانيا بين الخيال والواقع ، أو بين المسرح والتاريخ ، وبعبارة أخرى نقول من أين بدأ التاريخ في هذه الأعمال المسرحية وأين انتهى ومن أين بدأ الخيال وأين انتهى ، وإن كان يصعب من البداية أن نحدد في أي عمل فني نسبة الحقيقة ونسبة الخيال ، نظرا لأن الفنان المبدع هو القادر على عملية مزج كيماوي بين الواقع والخيال إلى درجة يستحيل معها توضيح كل عنصر من العناصر المكونة للعمل الفني ووضعه على حدة فيصبح الهام ليس ما هو كائن بل ما يمكن أن يكون.
أول النصوص التي سنتناولها هو نص علي أحمد باكثير المعنون بسر الحاكم بأمر الله"(19)
وأعتقد أنه أقدم النصوص الثلاثة التي ننوي تحليلها "(20)
قسم علي أحمد باكثير هذه المسرحية إلى ستة مناظر :
المنظر الأول : يبدأ من ص7 إلى ص49 ، وهو أطول فصول المسرحية . وحسب الإرشادات التي وضعها المؤلف نجده يحدد الفضاء المكاني لبداية مسرحيته فهي غرفة في قصر من القصور مجللة بالستائر والظلمة حالكة والحاكم بأمر الله جالس جلسة الصلاة على سجاد كبير من الحصير الخشن وهو يرتدي جبة من الصوف الأسود وعلى رأسه قلنسوة من الصوف الأحمر الداكن وقد أطلق شعره حتى تدلى.
بعد نهاية استغراق الحاكم وتأملاته وترديده لشعر ذي ملامح صوفية تدخل غليه زوجته متقربة متوددة ، ولكن الحاكم يبدي لها بطريقة فيها الكثير من الاستخفاف أنه مشغول عنها بأمور أخرى وأنه عازم على التخلص من ملذات الحياة والتفرغ إلى العبادة والتهجد رغم تعلقه بزوجته وابنيه علي وست مصر اللذين يتجاذب معهما أطراف الحديث لفترة لكن سرعان ما تنتهي إذ يقطعها عبد الرحيم بطرق الباب والاستئذان للدخول ليخبر الحاكم ببعض مجريات الأحداث ولكن هذا الأخير يسأله عن الغلام الذي كلفه باشترائه فيجيبه عبد الرحيم بأن الغلام موجود. ثم يقوم بإدخال الغلام المرتعب خوفا وجزعا ويأتيه بابنه علي لكي بهدئ من روعه قليلا وبعد أن استأنس الغلام خرج علي من الغرفة وقفز الحاكم على الغلام الذي صرخ صرخة قصيرة ، وخرج الحاكم بعد فترة وجيزة بأمعاء الطفل بين يديه مبديا تعجبه من طولها ويطلب من عبد الرحيم النظر إليها والتمعن فيها. وتحدث عملية القتل هذه ضجة في القصر وخارجه . ويدخل الحاكم في نوبة تأمل جديدة تقطعها عليه أخته ست الملك غاضبة ساخطة مستنكرة الأفعال الشنيعة التي يأتيها الحاكم وتتهمه صراحة بالجنون حتى أنها أصبحت تخاف منه على علي وست مصر فيحاول الحاكم تبرير أفعال القتل وسفك الدماء التي يأتيها وخاصة بعض التصرفات الخرقاء التي يقوم بها من حين لآخر كمنع بيع الزبيب والملوخية وخروج النساء… الخ . تعبر ست الملك صراحة عن اتهامها لأخيها بتخريب الدولة وإضاعة ملك الفاطميين وينتهي الحوار الصاخب بالقطيعة .
ثم يدخل الحاكم في حوار مع داعي الدعاة وميزانية الدعوة والجباية ثم يختمها بالتساؤل عن جدوى الدعوة ومناقشة مفهوم الإمامة الحقة فيطرح الحاكم مفهومه الصوفي للإمامة فينكره داعي الدعاة ثم يتلقى تقريرا عن جواسيسه الذين بثهم في كامل أرجاء القاهرة من طرف رئيس الحرس عبد الرحيم فيتأملها الحاكم باعتبارها تقارير مكتوبة ويعلق عليها ويأمر بالمواصلة ويأمر بمزيد الأجور للعيون والجواسيس ثم يختار أحد المعارضين ويطلبه ويجابهه بالشتيمة التي سبها للحاكم فيستغرب المسكين الذي تكون نهايته المحتومة بالقتل والتنكيل والتمثيل . ثم يستقبل أمه ويدخل معها في حوار يفيض رقة وإحساسا ، مليئا بعاطفة الأمومة فيتظاهر بموافقتها إلى كل طلباتها ولكنه في نهاية الحوار بعد أن ألحت عليه ليأكل الطعام يخبرها بأنه سيأتي يوم يستغني فيه عن الطعام فتعتبرها أوهاما . وفي غفلة منها يطلب من أحد الحراس بأن يوزع الطعام الذي جلبته له أمه على الفقراء . وبعد الطعام ترسل له أمه جارية جميلة (بعد الأكل يأتي الجنس) فيدخل معها الحاكم في لحظات غزل رقيقة وتدخل عليهما مجموعة من الحريم فيرقصن ويغنين أمام الحاكم فيرتخي معهن قليلا ولكنه سرعان ما يتدارك الأمر ويحكم عليهن بالقتل ولا ينفع الاستعطاف والاستجداء ، وينفذ حكمه ببرودة مرعبة ويلقي بهن جميعا في النيل وهن في صناديق محكمة الغلق والثقل ويصرح إثر ذلك " ها أنا يا رب قد تخلصت من الفتنة الكبرى "(21)
أما المنظر الثاني : الذي يبدأ من ص50 إلى ص67 في قاعة من القصر يصفها الكاتب في الإرشادات في الصفحتين 50 و51 ، حيث يجلس الحاكم للفصل في القضايا العامة والنظر في شؤون الدولة وأغلبها قضايا حول محرمات الحاكم التي فرضها إلى الناس ، الأولى كانت قضية مواطن قاهري أكل الملوخية ويخرج المتهم بأعجوبة من إدانته نتيجة خفة روحه ، وقضية امرأة خرجت بتصريح ولكنها خالفت اليوم المحدد بالتصريح نظرا لأن أخاها منعها من زيارة أمها في اليوم الذي ماتت أمها فيه وسمح لها بالزيارة بعد أن استحوذ إلى الإرث ويأمر الحاكم بإعدام المتهم بعد أن فهم الحيلة والمكيدة التي دبرها هذا المحتال . كيف لا والحاكم علام الغيوب . والقضية الثالثة كانت قضية تاجر أتلف الحرس محصوله من الزبيب والعسل فيسأله الحاكم عن الوجهة التي ستوجه لها البضاعة (لأنه حرم الخمر) فأقسم بأنها للتجارة وليس للخمر فيطلب الحاكم من التاجر تقييم ثمن بضاعته بعد أن أقسم على توجيهها وجهة حلال فيأمر له بالتعويض ثم يستقبل في المجلس زائرا غريبا وهو أحد المثقفين المشعوذين ، قدم من بلاد الفرس ، فيستقبله الحاكم ويتسلم من الداخل ثلاثة كتب قديمة ، ويأمر كاتب الدست أن يدفع لصاحب الكتب مبلغا ماليا هائلا ، بعد أن سأله من أين أتى بهذه الكتب فيجاب بأنها من بلاد فارس بلد سلمان الفارسي .
ثم يستقبل آخر المتقاضين وهم أربعة من المنجمين نصب لهم محكمة متهما إياهم بالكذب والتدجيل مستشهدا على ذلك بالأحاديث والقرآن الكريم وبين أنهم كانوا مأجورين من التجار ، ثم يلتفت إلى العلماء أصحاب الفتوى على المذاهب الثلاثة حول التنجيم وتحليله وتحريمه . وبسبب ما عرف من بطش الحاكم طلب العلماء الثلاثة أن يكتبوا وصاياهم . يبدأ عالم الشافعية بالإنكار على الحاكم ممارساته في التنجيم وعصمة الإمام فيأمر بقتله فيعلق المفتي المالكي على الظلم في قتل العلماء فيلحقه القتل هو أيضا .
وأما المفتي الحنفي فيتساهل ويحاول مراوغا بذكاء فيبقى على حياته . ثم يستدعي الفقراء ويرغبهم بكمية كبيرة من الذهب . ولكن بعد أن يقسمهم فريقين ويعدهم بإعطاء الذهب للفريق المنتصر ، ويتخاصم الفريقان ويتقاتلان قتالا عنيفا ، والحاكم يتفرج عليهم من شرفة قصره مع الحاشية ، وينتصر عبد أسود على المجموعة كلها ، وعوض أن يحصل على الذهب كجائزة يجازى بالقتل ، ثم يأخذ الحاكم الذهب وينثره على الجموع المتراصة في الباحة ويبقى يتفرج على المنظر…
المنظر الثالث : يبدأ من ص68 إلى ص96 . يحدد الكاتب في الإرشادات المسرحية الفضاءين الزماني والمكاني اللذين تقع فيهما أحداث هذا الفصل : حجرة في بيت حمزة ابن علي (كذا) ملتصقا ببيت آخر استأجرهما حمزة ، الأثاث بسيط والوقت ليل . ويحتوي هذا الفصل على نقاش يدور بين ثلاث شخصيات : حسن الأخرم ومحمد بن إسماعيل الدرزي وإسماعيل بن محمد التميمي ، ثلاثتهم أتوا من بلاد فارس مسلحين برغبة كبيرة في هدم الإسلام ، ومما يسهل عليهم مهمتهم ادعاؤهم التشيع .
ويبدأ حوارهم حول أنجح السبل للإطاحة بالحاكم بأمر الله وتخريب الإسلام بالدعوات الهرطقية والمجوسية الزاحفة من بلاد فارس بعد أن استطاع حمزة بن علي أن يحظى بثقة الحاكم بأمر الله وألف له كتابا ادعى أنه عثر عليه في خزائن كتب فارس ، وهو كتاب قديم يبشر الحاكم بالألوهية ، وصدقه الحاكم في دعواه " كتاب شرحت فيه سر الحاكم وأهم أعماله وأوصافه وعلامات ظهوره وسميته فيه قائم الزمان وذكرت فيه أنه يصل يوما إلى درجة الألوهية "(22)
كما حاولوا الاتصال بست الملك أخت الحاكم ومحاولة إغوائها والتغزل بها حتى وصلوا في نهاية المطاف إلى إيغار صدر أخيها غليها باعتبارها زانية تستحق الرجم والقتل حتى ينفردوا بالحاكم ، كما حاولوا أن يفرقوا بين الفئات المكونة للمجتمع القاهري في عهد الحاكم ( سنة ، شيعة ، علويون ، نصارى ، يهود ، أتراك ، مغاربة وعبيد ).
وينتهي الفصل الثالث مع قمة المؤامرة عندما يسمي الحاكم حمزة بن غلي بداعي المستجيبين ويقلد بقية أعضاء عصابة المؤامرة ألقابا دينية تسير في نفس مسيرة تسمية حمزة . وفي النهاية يسمع آذان الصبح في الجوامع والمساجد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله…
المنظر الرابع : يبدأ من الصفحة 97 إلى الصفحة 109، يحدد الكاتب الفضاءين الزماني والمكاني كعادته في قاعة الذهب ، نفس المنظر الثاني والوقت ضحى. يبدأ هذا الفصل بحوار بين رجال الشرطة ، حراس القصر الملكي ، وبين حمزة بن علي الذي يسأل الحراس إن كان مساعدوه قد وصلوا إلى القصر أم لا ، وذلك بغية الاجتماع مع الحاكم ، ثم يدور حوار بينه وبين مساعديه حول آخر الأخبار وعن أفضل السبل لتقدم الخطة خاصة وأنهم لاحظوا بعض الارتياب من جانب الحاكم وبعض أنصارهم الذين بثوهم وسط العامة وجميع الفئات المكونة للمجتمع القاهري ، وانهالت عليهم شتائم العامة وسبهم بعد أن لاحظوا مروقهم وخروجهم عن الدين الإسلامي وهرطقتهم التي بدأوا يدعون إليها في المساجد والجوامع إبان صلاة الجمعة . ويدخل عليهم الحاكم بعد أن اعترضه لفيف من العامة مهللين مكبرين له مسبحين بآلائه . فيأخذ مكانه وسط المجلس وتعرض عليه قضية اغتيال أحد أعوان حمزة بعد أن أمسكت الشرطة بالقاتل الذي اعترف بجريمته أمام الحاكم مبررا إياها بأنها دفاع عن الإسلام والدين الحنيف ، بل تحدى الحاكم مهددا إياه بالقتل نتيجة أفعاله المسيئة إلى الإسلام والمسلمين ويرد عليه الحاكم بنفس التحدي ويناوله خنجراً ولكن المسكين يعجز "يتقدم خطوة نحو الأريكة ولكنه يقف جامدا في مكانه ويرتعش الخنجر في يده وينظر ذاهلا إلى الحاكم"(23)
وينتهي الفصل الرابع بأمر من الحاكم لاستباحة القاهرة ومعاقبة المصريين .
المنظر الخامس : فيهذا الفصل يحدد الكاتب الفضاء المكاني فقط ، نفس المنظر الأول في قصر الخلافة . يبدأ هذا المنظر بمجلس فيه الحاكم مع من بقى من عصابة الفرس
( هناك من قتل وهناك من هرب ) فيبدأون بتدارس وضع القاهرة أثناء عملية التأديب وما سببت هذه الحرب الأهلية من دمار والتعبير عن الخشية من انتصار المغاربة والأتراك على العبيد ، وفي الأثناء تدخل جارية معلنة قدوم أم الحاكم بأمر الله ، فيخرج لها ويترك بقية المجتمعين . ويتواصل الحوار بينهم حول تقدم عملية المؤامرة والتعبير عن رغبتهم في استمالة أكبر عدد ممكن من الجيش والقواد من الأتراك والمغاربة .
" أليس أفضل من هذا يا حمزة أن نستبقي هؤلاء الجنود لنستميلهم إلينا فيكونوا قوة لنا وعونا على تحقيق مآربنا.. "(24) . ولكنهم لا يصلون إلى رأى محدد نظرا لأنهم يشكون في كل شئ بغية توفير أكثر أسباب النجاح لمؤامرتهم على الإسلام والمسلمين فيطرحون قضية بث التفرقة بين المتحالفين ضدهم . ثم يتطارحون خشيتهم من انقلاب الحاكم عليهم والتنكيل بهم نظرا لأن الحاكم بدت على ملامحه علامات الذهول وعدم الرضا ، فقرروا أن يوغلوا صدره على أخته على أساس أنها تقيم علاقة خنائية مع أحد أفراد العصابة وهو عبد الله القرشي ، خاصة بعد أن تأكد من تحالفها مع ابن الدواس زعيم المغاربة الذي اختفى لفترة هروبا من الحاكم . دفعوا برقعة إلى السياف تتضمن تلفيقات وأكاذيب حول ست الملك وعلاقتها المزعومة بأحد أفراد العصابة وفيها قصائد شعرية غزلية قيلت في ست الملك ، ولكنها طردت قائلها ولم تسمعها .
وبعد انتهاء الحاكم من لقائه مع أمه يأتي ابن الدواس فيختفي أفراد العصابة الفارسية ويدخل الحاكم في حوار عنيف مع ابن الدواس الذي جاء ناصحا ومحذرا من مغبة مخلفات الحرب الأهلية التي أذكاها الحاكم ، فيطلب من الحاكم أن يأمر عبيده بالكف عن قتل المصريين ونهب الخيرات بغير حق ، وارتكاب فواحش الأفعال ، فيراوغ الحاكم ، فيبلغونه أن جبهة إنقاذ القاهرة (العامة ، المغاربة ، الأتراك) تهدد بإحراقها ، ويأمر الحاكم العبيد بإيقاف القتال ويأمر الوزير بكتابة أمان عام إلى سكان القاهرة . وفي هذه الأثناء تدخل ست الملك هائجة مرعدة مزبدة معبرة عن عدم رضاها عن أفعال أخيها المجنون ، ويبلغ الحوار الدائر بينهما قمة العنف فيشتد الصراع والتهديد والوعيد من الجهتين فيتهمها برغبتها في الاستيلاء على السلطة صحبة عشيقها المزعوم فتصعق بالخبر ولا تكاد تصدق والحاكم يؤكد لها أفعالها المخلة بالأخلاق والشرف مستندا إلى رقعة الوشاية التي صدرت من العصابة الفارسية وحملها السياف ، ولكن ست الملك لا تجد مخرجا غير الإنكار بعنف . وفي النهاية تنهار باكية متهمة الحاكم بأنه هو الذي لفق لها هذه التهمة ويصر الحاكم على الاتهام ، وبعد أن يسمعها أشنع الصفات (عاهرة ، فاجرة ، بنت النصرانية ، لوثت شرف العزيز) يفرض عليها فحصا جينكولوجيا تقوم به القوابل ، وهنا تحس ست الملك بأنها أهينت بأقسى ما تكون الإهانة . ويصرخ الحاكم في وجه الحضور ويأمرهم بالانصراف .
وبعد هذا الموقف العاصف يطلب الحاكم مهلة لاستيضاح الأمور ويترك حمزة والدرزي في القاعة فيتوجسان خيفة من الحاكم بعد أن لاحظا عليه كل الانفعال فيقرران وضع خطة للإفلات من الحاكم فيصتنع الدرزي حيلة البحث عن صاحب العلاقة مع ست الملك ويبقى حمزة مع الحاكم بأمر من هذا الأخير ، وهنا بدأ الحاكم يعبر عن سخطه على حمزة بعد أن أفاق من غفوته التي فرضتها عليه العصابة الفارسية. ويتشنج الحوار بين الحاكم وحمزة حتى وصل حد التهديد بالقتل " أما يقتل الإله رسوله " ويبلغ الصراع حد المشادة بين الحاكم وحمزة ولكن هذا الأخير يرتعب ويرتد إلى الوراء بعد أن ضعف أمام عيني الحاكم الجاحظتين . ويعبر الحاكم عن تفطنه إلى حيلة الكتاب الذي ادعى حمزة أنه عثر عليه باعتباره كتابا قديما يتنبأ بنبوة الحاكم ، وهو من وضع هذا المارق الأفاك ويحاول حمزة التبرير فيصده الحاكم صائحا بكل عنف على هذا الدجال ، ويأخذ الحاكم الكتاب ويمزقه في غضب ويرمي بجلده في وجه حمزة ويهدده بالتمزيق مثل هذا الكتاب تماما ، ويأمر حراسه باللحاق بحمزة الهارب وقتله " لا يفوتنكم الملحد اقتلوا الكلب…"(25)
المنظر السادس : يمتد هذا المنظر من الصفحة 138 إلى الصفحة 152 ويحدد فيه الكاتب الفضاءين الزماني والمكاني . فالمكاني نفس المنظر السابق والزماني الوقت بعد العشاء . ويبدأ هذا المنظر بحوار يدور بين الحاكم والدرزي الذي قبض عليه الحراس وهو في ثياب ممزقة ، فيعترف للحاكم بكل خيوط المؤامرة الفارسية خاصة تلك التي حبكت حول ست الملك ويقرر الحاكم الاحتفاظ بالدرزي حتى يقبض على من بقي حيا من أفراد العصابة ، وهنا يدخل الحاكم في حوار مع خيال يحاسبه (صحوة الضمير) عن إساءاته وأفعاله المشينة تجاه نفسه وأمه وزوجته وأبنائه وأخته ورعيته ، وهنا يتحقق الحاكم من محدودية قدراته فيقرر بأن النجوم والجواسيس لا تؤدي إلى علم الغيب الذي لم يبلغه ، ولو بلغه لكان من العالمين بالمؤامرة واكتشفها . ثم يدخل الحاكم في حوار عاطفي رقيق مع زوجته التي تعبر له عن حبها وحب أبنائه له ، ثم تدخل عليه أمه وتحذره من الخروج إلى جبل المقطم ، ولكنه يصر فيوصيها خيرا بأخته وأبنائه وزوجته ويسلمها مفاتيح القصر . تنبهه أمه أنه سيقتل ، ولكنه يصر على الخروج " فسيكون هذا آخر خروج مني بالليل يا أماه ."(26)
ويعترف بأنه ظلم أخته ست الملك بعد أن اكتشف الوشاية ويغادر الحاكم القصر في جولته إلى المقطم وأمه تراقبه من الشرفة . وهنا تنتهي المسرحية .
أما المسرحية الثانية ، فهي للأستاذ البشير القهواجي وعنونها ب "بيارق الله"(27) وكأن العنوان لا يوحي بأن المسرحية تتحدث عن الحاكم بأمر الله ولكن مباشرة عندما يشير المؤلف إلى الشخصيات يذكر الحاكم بأمر الله بن العزيز الفاطمي . وهذه المسرحية تأتي متأخرة زمنيا عن مسرحية باكثير وسابقة لمسرحية السيد حافظ التي سيأتي الحديث عنها لاحقا .
قسم البشير القهواجي مسرحيته إلى رؤيا الافتتاح وثلاثة فصول ورؤيا الاختتام .
مشهد رؤيا الافتتاح : من الصفحة 9 إلى الصفحة 11 ، يبدأ باستغراق الحاكم في تأملاته وهو مصغ إلى موسيقى دينية وبجانبه يتصاعد البخور في وضعية يذكرنا فيها بحلقات الذكر الدينية عند الصوفية والدراويش . يدور حوار فلسفي ميتافيزيكي بين الحاكم المرتدي لجلباب صوفي وجبريل في ثوب صوفي مرقع ويتركز هذا الحوار حول الماء (النيل) والنار (جمرة في هيكل جمجمة) والنور . ثم يدخل الحاكم في تداعيات أفكار أو مناجاة يعبر من خلالها عن إحساسه بالألوهية " أنا كلمة الحق ، أنا سر الأسرار ، أنا الحاكم الجبار ، أنا صاحب البستان والثغور "(28)
وفجأة تدخل عليه أخته ست الملك وتقدم له تفاحة سرعان ما تسقط من يده ويرى الحاكم وجه أخته مقسوما على نصفين نصف جميل ونصف مشوه .
الفصل الأول : ويبدأ من الصفحة 13 إلى الصفحة 29 ، يحدد فيه الكاتب الفضاء المكاني فقط ، فهو مجلس الأميرة ست الملك وهو فضاء ملكي . الحوار في بدايته يدور بين ست الملك وابن داوس حول مرسول ستكلفه ست الملك بمهمة سرية للرقابة ويعترف ابن داوس بعشقه للأميرة ست الملك ولكنها تتجاهل هذا التصريح وتسأله عن بعض الشخصيات النافذة في الدولة وابن داوس ، يجيبها بأدق التفاصيل ، خاصة حول شخصية أرجوان الخادم الذي أصبح وزيرا ، والذي دخل على ست الملك متنكرا وتبدأ بإهانته وشتمه " وقعت أيها العبد الآبق ـ انغلق عليك اليوم المقص الذي فتحت على نفسك أمس "(29) يحاول ابن داوس التدخل للتخفيف من التوتر فتصده ست الملك وتأمره بالسكوت . ويتواصل الحوار بين اتهام ست الملك ودفاع أرجوان عن نفسه بتذلل كبير ويخلص إلى القول بأنه جاء لتحذيرها من أفعال أخيها ومن الخوف من انهيار الدولة الفاطمية نتيجة الفوضى والاضطراب الذي بدأ يسود أجهزة الدولة سواء من ناحية الجيش أو الخزينة وتقطع هذا الحوار راشدة زوجة الحاكم بأمر الله ، حيث يختبئ الرجلان وتبقى راشدة وست الملك يدور بينهما حوار نسائي رقيق ، خاصة من طرف راشدة ، التي تشكو هجر الحاكم لفراشها وأبنائها ، فتؤنبها ست الملك بأن الملكات لسن كجواري المخادع ينبغي أن يكن قويات . ثم تعبر راشدة عن غيرتها من ست الملك ، إذ أن الحاكم ينادي زوجته راشدة باسم ست الملك ويحتدم الحوار بينهما وتتبادلان الاتهامات حيث تتهم راشدة ست الملك بالسحر والشعوذة وإقامة العلاقات الخنائية المتعددة ثم تنهار راشدة باكية على ركبتي ست الملك . ينفتح الباب بعنف فيدخل الحاكم ويتبادلون ثلاثتهم العتاب ، فالحاكم يعاتب راشدة لوجودها مع أخته ، وست الملك تعاتب الحاكم لغيابه المتواصل عنها . يتوتر الحوار بين ست الملك والحاكم بأمر الله إذ كل منهما يحاسب الآخر عن أخطائه التي بدت له . ثم تنهال راشدة على الحاكم بالأسئلة المتتالية يفهم منها الاتهام بالإهمال والخيانة والحاكم يدافع عن نفسه بإجابات غيبية ليس في قدرة راشدة فهمها .
يعود الحوار بين الحاكم وأخته بعد أن تخرج راشدة منهارة الأعصاب فيرثي الحاكم لحالها ، فتضيف ست الملك بأنها هي أيضا تستحق الرثاء ، وتستدرك محذرة أخاها من مغبة أفعاله وخطورة الطريق التي يسلكها وتحذره من أعدائه فيرد عليها باتهامها بالثرثرة . ثم يخرج الحاكم غاضبا ويخرج ابن داوس وأرجوان من مخبئهما ويتهمان الحاكم بالجنون بعد أن استمعا إلى الحوار الذي دار بينه وبين ست الملك . وتبدأ الاستعدادات لانقلاب في أعلى هرم السلطة وتأمر ست الملك بحبس أخيها الحاكم في مستشفى للأمراض العقلية "خذاه برفق إلى مارستان القاهرة" .(30)
الفصل الثاني : لم يحدد الكاتب الفضاء الزماني ، أما الفضاء المكاني فقد وقع تحديده في مستشفى الأمراض العقلية حيث أن الشخصيات التي تدور فيه ، كلها مقيدة بالسلاسل ، مما يجعله فضاء مغلقا تصعب فيه الحركة .
يدور حوار بين هذه الشخصيات الغريبة التي اخترعها المؤلف ، الجني ، المسكون ، الوقاد القبطي والعبد . حوار مجانين لا تستطيع أن تمسك ببدايته ولا محتواه ولا نهايته نظرا لأنه عبارة عن هذيان وتعبير عن مكبوتات من غرائز شتى ( الأكل ، الجنس ، الإنجاب..) وأحلام لم تتحقق ورغبات بقيت دفينة في أغوار النفس البشرية . والشخصيتان اللتان تتميزان في هذا الحوار هما شخصية الحاكم المتأمل المستغرق والذي لا ينطق بكلمة واحدة وجبريل في تهويماته الصوفية وتأملاته وأطروحاته الميتافيزيكية " كلما اقتربنا من حضرتك غمرنا نور الشمس الأزلية وانكشف لنا سر الكلام يا مولانا "(31) ... وعندما ينطق الحاكم يعبر عن رحلته الصوفية ومقاماته وأحواله في هذه الدنيا " الحياة تحرقك وكشوف عقلك تعينك على تجرع الموت ... "(32)
وسط حوار الصم الدائر بين هذه الشخصيات المريضة تدخل ست الملك فتعبر عن استنكارها للوضعية التي وجدت فيها الحاكم لأن المكان عبارة عن سجن واصطبل ومارستان ، كلها التقت في هذا الفضاء ، وبعد التشاور مع مساعديها ابن داوس وأرجوان يقررون نقله إلى حجرة منفردة فينهال عليهم الحاكم بالسب والشتائم ويعتبرهم ثالوث المؤامرة ويهددهم ويتوعدهم بالانتقام ، فيرد عليه ابن داوس باتهامه بالجنون ، ولكن ست الملك سرعان ما تتدخل وتوقف ابن داوس ، ولكن الحاكم يستمر في الشتم واللعن دون أن ينسى أخته التي اختارت ابن داوس زوجاً لها فيلومها على تآمرها مع الخدم ، فترد عليه بأن جنونه هو الذي دفعها إلى ما أقدمت عليه . ويتدخل أرجوان ليتوسل إلى ست الملك لكي تخلص كل الناس من هذا السيف المسلول المعلق على الرقاب (الحاكم) فلا تعيره انتباها وتواصل نقاشها مع أخيها الذي عبر لها عن حبه "المدنس" فزاد اتهامها له بالجنون . فيرد عليها بأنه أخرجها من قلبه وأن الله وحده هو الذي يعمر مهجته وينتهي إلى طردها " اذهبي ... برئت منك ... اذهبي أيتها المرأة حضورك يعكر حدسي ... "(33)
ويتواصل حوار المجانين والملحدين في جو شكيزوفريني ويتطور في مرحلة أولى إلى شجار ، ثم يتحول إلى عنف وقتل مجاني وجنوني دون أن يتحرك لا جبريل ولا الحاكم حتى نحس وكأن الموت فقد معناه فلم يعد هو الموت فالمقتول يطلبه والقاتل لا يعرف أته يقتل والحاكم يتفرج ولا يتدخل ، وفي الأخير ينطق الحاكم مخاطبا جبريل " سنحج هذا المساء إلى شارة القدرة وننشر بيارق الله الحي فوق جبل المقطم يا جبريل "(34)
ثم تدخل راشدة زوجة الحاكم المارستان ، فيهالها الأمر وتأمر رئيس الممرضين بأن يفك الحاكم من قيوده وترتمي عند أقدامه فيمسح على خديها مداعبا ويسأل عن الأطفال ويخرج الحاكم طليقاً .
الفصل الثالث : يبدو أن الكاتب في هذا الفصل حدد الفضاءين : الزماني فهو الليل والمكاني وهو جبل المقطم . لقد أحرقت القاهرة والحاكم يتفرج على الحريق وبعد أن أمر بالحرق يسأل ما فعلت بالقاهرة يا صاحب المشعل فيجيبه " أشعلت جبال الحطب في مواقد القيامة وأحرقت القاهرة... "(35)
ويعلق الحاكم على الحريق بأن الماء والنار قد تصالحا ، ويبرر الذي أشعل النار جريمته ببعض الآيات الإنجيلية . تتدخل راشدة وتطلب من زوجها الحاكم أن يغادر المكان ولكنه يرفض وتتعالى أصوات الحضور لاهجة المجد لله ، المجد لله ، وتتبعها توسلات الله أكبر ، الله أكبر فيتدخل جبريل ليصحح " المجد لمولانا الحاكم "(36) فيرد عليه الحاكم " عليك السلام يا جبريل "(37).
كذلك يشار إلى الحرب الأهلية التي دارت رحاها في القاهرة ويصور عنف الحاكم ، حتى جبريل أوفى أوفياء الحاكم رق قلبه لهذا العنف القاتل والدمار والخراب اللذين حلا بالقاهرة وسكانها ولم يستثن حتى حيواناتها ولكن الحاكم لا يلين ولا يهتز لهول العنف بل يواصل متعته "النيرونية" بمشاهد الحرق والقتل والدمار .
ويقع احضار ثالوث المؤامرة ابن داوس وأرجوان وست الملك مغلولين بالسلاسل ويأمر الحاكم بفك قيود أخته ست الملك فتتوسل إليه أن يقتلها ولكنه يتجاهلها تمامها " لست أعرفك أيتها المرأة ، من أنت ؟ "(38) ولكن قلب راشدة (زوجة الحاكم) يرق لحال ست الملك فيمنعها الحاكم ويأخذها من يدها مبتعدا بها عن الجماعة : " تعالي ننجب ابنا ، ستحبلين وتمتلئين بالله مرة أخرى.. "(39)
يبقى أرجوان وابن داوس يعبث بهما الوقاد والأحدب ، وهما من أتباع الحاكم فيمثلان بالاثنين المغلولين اللذين ساعدا ست الملك على تدبير المؤامرة ، مؤامرة عزل الحاكم وينتهي الفصل بأقسى مشاهد العنف والتنكيل والشطحات الصوفية ، فتكون لوحة فسيفساء من نار وماء وقتل وتعذيب وتراتيل صوفية .
مشهد رؤيا الاختتام : عودة إلى جو الحلقات الصوفية التي بدأ بها الكاتب مسرحيته وتختفي كل الشخصيات ولا يبقى إلا ثلاثة : الحاكم في نشوة انتصاره ، وجبريل متخبطا على الأرض مصابا بداء الصرع وممرض عجوز ز. بتلاوة صوفية معجزة ، يقوم جبريل من صرعته ويستوي واقفا أمام الحاكم قائلا : مولانا لك البقاء ثم يسترسل في كيل المدائح للحاكم وتأليهه ثم تعود كل الشخصيات المساعدة للحاكم متقربة عابدة مؤلهة (جبريل ، العبد ، الوقاد ، الأحدب ، الممرض العجوز) ، فيعبر الحاكم عن تألهه صراحة : " الأرض لا تحتمل خطو الرب ، والأذن الآدمية لا تحتمل سماع الصوت الإلهي ".(40) وفي هذا الخضم يخرج العبد من وسط الجماعة ويطعن الحاكم فيصرخ ويختفي من المشهد . أول ردة فعل كانت لجبريل " قتلوا الله الحي ، طعنوا كيان الله ، قطعوا جذعنا وجذرنا والفرع ... "(41) وينتهي المشهد بهذه الكلمات التي نطق بها الحاكم : " الله حي لا يموت انتظروا عودته المنتقمة ".(42)
المسرحية الثالثة التي سنتناولها بالبحث هي : " حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله "(43)
قسم الكاتب مسرحيته الطويلة نسبيا ( مقارنة مع السابقتين ) إلى فصلين فقط :
يمتد الفصل الأول من الصفحة 6 إلى الصفحة 68 .
والفصل الثاني من الصفحة 70 إلى الصفحة 118 .
الفصل الأول : يبدأ بمجموعة من المؤرخين بدون أسماء في البداية ثم شيئا فشيئا تعرف أسماؤهم وهم يتناقشون حول تسمية مدينة القاهرة ومن هو الذي اقترح هذه التسمية ، حيث يتدخل المعز ليبرر سبب الاختيار بقوله : لتقهر الدنيا ، ويرفض تسمية أخرى كان قد اقترحها عليه قائده جوهر الصقلي الذي أمره بأن يفتح القاهرة بدون حرب . يورد الكاتب أقوال العديد من المؤرخين حول مدينة القاهرة ( بناياتها ، سكانها ، نيلها ، تربتها ، أسواقها ، قصورها وأسوارها ) وانطباعاتهم بعد زيارتهم لها .
لوحة يصورها السيد حافظ من خلال المؤرخين للقاهرة كأنه يتغزل بها ، ثم يورد بعض الآيات القرآنية حول مصر كما يذكر بعض الأحاديث النبوية ، ثم يتطرق إلى ذكر الأنبياء الذين ولدوا في مصر أو دخلوها وهم كثيرون ويستمر التعبير عن الإعجاب بمصر " من أراد أن ينظر إلى شبه جنة الفردوس فلينظر إلى أرض مصر... " (44) .
لا يتحدث الكاتب عن مصر وحدها بل يشير إلى سكانها أيضا ومميزاتهم الأخلاقية (الفكاهة) حتى يدخل ابن خلدون على المؤرخين ويدلي بشهادته أيضا " رأيت حاضرة الدنيا ، وبستان العالم ، ومحشر الأمم... وايوان الإسلام وكرسي الملك ، تلوح القصور والدواوين ... "(45)
بعد ابن خلدون يبدأ السيد حافظ يروي حكاية القاهرة مع جوهر الصقلي والمعز لدين الله الفاطمي عن طريق المؤرخين تارة وعن طريق شخصيتي المعز وجوهر ، فيصف الدخول إلى مصر والاتصال بأهلها واختيار موقع القاهرة والحديث عن الخلفاء الفاطميين الثلاثة المعز والعزيز والحاكم ومآثرهم والظروف التي تولى فيها الحاكم السلطة ويشير إلى الاختلافات التي وقعت بين مسؤولي الدولة حول الوصاية على عرش الحاكم .
وتسوء الأمور بين المتنفزين حتى تصل إلى المبارزة بالسيف ، وتتدخل ست الملك في الحوار والنقاش فتتهم ابن عمار بمحاولة قتل الحاكم من أجل السلطة : " إنه صراع السلطة يا أخي ... وعليك أن تفهمه وبسرعة فابن عمار فكر أن يقتلك. "(46) فيستغرب الحاكم من دوافع محاولة القتل . تقترح ست الملك على أخيها أن يغادر القصر وتطمئنه بأن عيونها تلاحقه أينما كان . وفي الأثناء يموت قاضي القضاة فتصادر أمواله وتوضع في بيت مال المسلمين ويعين قاض جديد . ويدور حوار بين أم الحاكم وأخته تجاملان بعضهما وتنصح الأم الأخت بأن تحافظ على أخيها وترعاه فتعدها بذلك . ويبدأ الحاكم بأمر الله في ممارسة بعض سلطاته فيحاكم برجوان ويأمر بإعدامه باعتباره خائن الأمة وسارق الناس ، من هنا يبدأ الحاكم سلسلة أعماله الدموية ويبدأ نزوله إلى الشارع القاهري في حي شعبي من أحياء القاهرة ، هو حي امبابة ، مرفوقا بخادم ويتخذ صحبة فيها شواء وزبالا . منطقة شعبية مصرية فيها بعض المطاعم الشعبية ويصف السيد حافظ مشادة بين صبي الشواء وزبون لم يجد نقوده ليدفع بعد أن أكل ، فيحتد الشجار بين الاثنين ويدخل عليهم الحاكم بأمر الله متنكرا فيستمع إلى همومهم عبر حوارات خفيفة يصلون فيها إلى الحكم على السياسة بأنها عبء ثقيل " لما كنت زبال كنت شايل حمولة الزبالة في المدينة ولما كنت سلطان شلت كل هموم المدينة"(47) ويدخلون في تقييم مرحلة حكم العزيز والحديث عن ابنه الحاكم (الحاضر في المجلس) ويعتقدون أن الحاشية ستفسده كما أفسدت غيره ، وفي الأخير يجمعون على ضرورة أن يتخلصوا من الحديث في السياسة " سيرة السياسة بتجيب الدناسة .. "(48)
وينادي المنادي بأن برجوان قتل فيفرح الناس ويغنون ويرقصون وينهال الحضور على الحاكم بالأسئلة حتى يعترف بأنه الحاكم بأمر الله فيصعق الحاضرون في البداية ثم يرحبون به فيترجاهم أن يقبلوه صديقا لهم " لا أنا عايز أجي لكم هنا وأقعد هنا في امبابة وسط الناس ... "(49) .
ويقرر الحاكم أن يكون دكان الشواء ديوان المظالم يحكم فيه الناس بالعدل ، ثم تظهر المجموعة المعارضة للحاكم الأثرياء والقضاة وقواد الجيش ويقررون أن يتآمروا على الحاكم بكل السبل والإمكانيات ويطرحون مسألة تولية ست الملك عليهم وسرعان ما يرفض الاقتراح باعتبارها امرأة فيجمعون على مراقبته ومعاقبته إن لزم الأمر .
ثم يعود الكاتب إلى الحديث عن الحاكم الذي يأمر بإنارة شوارع القاهرة وشن حملة لتنظيف الشوارع من الأوساخ وتحذير كل من تسول له نفسه بإلقاء الفواضل في الطرقات ، ويسير الحاكم وسط شوارع القاهرة بدون حراس لأنه عدل فأمن فسار بدون حراس . ويدور الحديث حول النساء والزواج والطلاق وخوف النساء من الحاكم بعد أن منع خروج النساء من منازلهن .
وتعرض على أصدقاء الحاكم قسام وفتحي رشوة ليتوسطا لمواطن لكي يخلصه الحاكم من ديونه فترفض الرشوة وتتدخل أم فتحي (صديق الحاكم) تشتكيه من أخته المتزوجة وخلافاتها المستمرة مع زوجها . ويعود الحاكم إلى الظهور من جديد في الدكان ويصدر مرسوما يأمر فيه سكان القاهرة بالنوم نهارا وفتح الدكاكين والمتاجر ليلا ويستمع إلى بعض الشكاوي ويحكم فيها بالعدل حتى تظهر امرأتان على شئ من الخلاعة في طريقهما إلى الحمام فيلاحظ أن النساء والرجال يدخلون نفس الحمام فيصدر قرارا بفصل حمامات النساء عن الرجال بعد أن يأمر بقتل الموجودين داخل الحمام المختلط ومنع تشييع الجنازات بالطبل والمزمار . ثم ينتقم من قاضي القضاة وأمر بقتله وإحراق جثته ، لأنه أمر بجلد رجل لم يرض أن يزوج ابنته لخادم القاضي ألف جلدة حتى مات . فخرج كل الناس وراء جنازته . ثم يأمر بتعويض لأحد المواطنين افتك منه الجيش كمية كبيرة من العسل موجهة لصنع (الحلاوة) وبعد أن يتأكد الحاكم يرد له أمواله . وتخرج سلمى أخت فتحي صديق الحاكم إلى قمة الأحداث تناقش أحكام الحاكم وتتحدى وتشتكي من زوجها وتطلب الطلاق ولكن أخاها يقنعها أخيرا بالعودة إلى بيتها بعد أن وعدها بأنه سيلتحق بهما . وفي الأثناء يدخل عليهم شهبندر التجار وابن داوس ويتناقشون حول جنسية الحاكم ، هل هو مغربي ؟ أم مصري ؟ فيتمسك فتحي بمصريته ويمدح عدله وعلمه وتواضعه . ثم يتطرق المؤلف إلى ابن داوس وشهبندر التجار وكبار قواد الجيش اللذين بدأوا يخططون للتآمر على الحاكم . وتحس ست الملك بالمؤامرة من خلال اختفاء القمح من الأسواق وتنبه الحاكم فيثور ويصدر تحذيرا مبطنا بالوعيد إلى التجار لكي يوجدوا القمح في كل الدكاكين . وتثير ست الملك مع الحاكم بحضور خاليهما ـ وهما من القساوسة ـ بأن عدد الكنائس قليل ، وهنا يعبر الحاكم بأمر الله عن تسامحه وتساوي الأديان عنده ويحاول إقناع أخته أن مؤامرة تدبر ضده : " أعرف أن هناك مؤامرة كبرى من زعماء بني كتامة ومؤامرة من أحبار اليهود ، ومؤامرة من أقاربي ومؤامرة من التجار … "(50) ويدخل على الحاكم شهبندر التجار وابن داوس ويدور نقاش عنيف بين الحاكم وابن داوس حول نزاهة جوهر الصقلي أو عدم نزاهته . هل تؤخذ أمواله الطائلة إلى بيت المال أم تترك لولده ويغضب ابن داوس عندما شكك الحاكم في صدق ونزاهة جوهر الصقلي . ثم ينتبه إلى وجود شهبندر التجار فيتوعده ومن ورائه من التجار إن لم يجد غدا القمح إثر صلاة الظهر في الدكاكين . تسكن الحارة مغنية اسمها عزيزة فتدخل إرباكا على جيرانها من الرجال فتحي وقسام وفاتوش وعمران ولكن قسام يتعلق بها تعلقا شديدا فتقربه وترفض البقية ويقترح عليها الزواج لكنها ترفض لأنها مكلفة بقتل الحاكم دون أن تعلم أحداً . لقد كلفها ابن داوس وشهبندر التجار بأن تربط علاقة مع الحاكم باعتباره يتردد على دكان فتحي في حي امبابة فسكنت هي بجانب الدكان لتسهل مهمتها " لما توقعيه نفضحه ونجرحه ونذبحه .. "(51)
ثم تخرج مجموعة من السكارى المتسكعين في الشوارع ويدور بينهم نقاش حول الزوجات والحاكم وعدل الحاكم وتواضعه وأصدقائه في حي امبابة وافتخار هؤلاء الأصدقاء بمصادقة الحاكم ويخطر على بالهم التبول على دكان فتحي الشواء أين يجلس الحاكم مع أصدقائه فيمسكهم متلبسين بجريمة التبول إذ أن الحاكم عدها جريمة "وسخت الطريق ، وسخت القاهرة ، قاهرتي الجميلة ... "(52) ، ويصدر عليهم أحكاما عادلة من الخصي إلى الجلد إلى المكافأة المادية لمن نهي الآخرين عن التبول في الطريق العام .
ثم يذهب الحاكم ليتفقد مفعول قراره الصادر حول القمح والتصرف على ضوء نتيجة الإنذار الذي أصدره إلى التجار وفعلا يجد كل الدكاكين مملوءة قمحا والخبز بأرخص الأثمان ، ويدخل على أحد الخبازين وهو في حالة عجن مستخدما رجليه ، فيشمئز الحاكم من المنظر " دا كلام فارغ يعجن العيش من الآن بالايدين . ممنوع استخدام الرجلين ونصدر مرسوم في الحال "(53) ، ويأمر الحاكم أن يجمع القمح ويوضع في أماكن محددة ويدفع ثمنه للتجار ويوزع على الفقراء حسب حاجة كل واحد وينتهي الفصل باتهام الحاكم بالجنون من طرف شهبندر التجار .
الفصل الثاني : يبدأ من الصفحة 70 إلى غاية الصفحة 118 ، ينفتح هذا الفصل على حوار حاد بين عزيزة المطربة الراقصة التي استوطنت واشترت بيتا قرب دكان فتحي الشواء حتى تستطيع إيقاع الحاكم في شباكها باعتباره يتردد على هذا الحي في امبابة ودكان فتحي الشواء بالذات . وعندما يحتد النقاش يهددها بأنه سيخبر الحاكم بما يجري في الحي من خلاعة مصدرها عزيزة ومجموعتها النسائية الخليعة وتترجاه عزيزة أن يفعل حتى تستطيع رؤية الحاكم وفجأة يتدخل قسام صديق فتحي فيحاول تهدئة عزيزة وإدخالها إلى بيتها . يحاول فتحي إخراج صديقه قسام من بيت عزيزة وفي الأثناء يدخل الحاكم ممتطيا جحشا فتخر عزيزة ساجدة تحت قدميه فيسأل الحضور عنها ثم يسأل قسام عن أحواله وصحته ثم تنهمر عليه عزيزة بالأسئلة وهو يجيب ومن خلال الكلام تحاول إيهامه بأنها تحبه حتى يتساءل " الست دي مالها "(54) فتجيبه بأنها عاشقة ويواصل الحاكم تجاهلها وتجاهل تصريح الحب الذي تلقيه على مسمعه ويسألها عمن تحب ، هل هو فتحي هل هو قسام فتنفي باستمرار وهنا تعترف له بأن من تحب هو الحاكم بأمر الله فيصعق : " ياخبر أبوكي أسود... "(55) .
ثم تظهر ست الملك على مسرح الأحداث مع ابن الحاكم يشكوها إهمال أبيه له فتخفف عنه حتى يدخل ابن داوس فيحاول ابن الحاكم الخروج فتطلب منه البقاء . يشتكي ابن داوس من ظلم الحاكم وقتله العديد من رجالات قبائل كتامة ، فيطرح عليها مسألة الرحيل عن مصر ، فتطلب منه التروي وألا يتخذ أي قرار قبل استكمال الحوار نظرا لأن والدة الحاكم قد دخلت المجلس . تدخلت أم الحاكم مباشرة في الحوار مدينة تصرفات الكتاميين ومعبرة عن تعاطفها وخوفها على ابن الحاكم الذي لم يبد أي إلمام بالسياسة وأي رغبة في السلطة . تخرج أم الحاكم ويدخل فتحي الشواء صديق الحاكم الذي يعلم ست الملك بأن أخاها في خطر من جراء عزيزة وحبالها التي لفتها حول الحاكم وأنه بنى لها قصرا وأصبح يقضي معها الساعات الطويلة . يلتحق قسام بفتحي خوفا عليه من مكروه ويظهر أن ست الملك كانت تعرفه من فترة فتسأله عن الأولاد والصحة والعشق . وفي هذه الأثناء يظهر وباء الطاعون في القاهرة ، ولذلك وجب إعلام الحاكم بهذه المسألة . ثم يبدو لنا الحاكم متنسكا متعبدا على جبل المقطم مشرفا على القاهرة متضرعاً إلى الله ليدرأ الخطر ويبعد المصيبة التي حلت بالشعب . تأتي عزيزة إلى الحاكم فتجده مغبر الوجه معفرا بالتراب سائب الذقن لم يأكل منذ أسبوع ، فتلومه فيرد عليها بأن الأكل لايحلو له والشعب يموت من الوباء ، لذلك ترهب وتنسك وتعبد طلبا للرحمة . تحاول عزيزة إخراج الحاكم من حالة التزهد وتعده بالرقص والغناء وقضاء اللحظات السعيدة " يا عزيزة أنت شيطان الأنوثة .. سأقتلك أنت وكل هؤلاء النسوة في الحال ... "(56) اعتقد الحاكم أن الوباء كان عقابا من الله نتيجة الفساد ، وعزيزة رمز الفساد ويحكم عليها ورفيقاتها جميعا بالموت . وقبل الموت تعترف عزيزة للحاكم بأنها جاءت لقتله بعثها شهبندر التجار وابن داوس : " هما بعثوني علشان أسمك وأذبحك ماقدزتش ايدي ارتعشت قلبي انتفض ... بس حبيتك وبخيالك طفت الليالي أغني لك وأحلم بك ... "(57) . ولكن فات الأوان وصدر حكم الحاكم بالإعدام .
ثم يسأل الحاكم عن حال الرعية وماذا فعل بها الوباء فيأمر بأخذ بعض الاحتياطات الواجبة لمنع انتشار الوباء مثل قتل الكلاب والفئران ومنع أكل الملوخية والترمس والأشياء النيئة .
قسام الذي أحب عزيزة ولم يعرف بحكم الإعدام أتى إلى دارها ، قرع الباب ووعدها بالزواج ولكن دون مجيب وهو يبكي . ثم يلوم الحاكم على قسوته الظالمة بعد أن يعلم بموتها وهو على حالة سكر واضح فيتخيلها وهي تغني فيبكي . يدخل عليه فتحي يحاول أن يخفف عنه ويحاول أن يبعث فيه الأمل والعزيمة على الصمود واعداً إياه بأن يزوجه أحلى النساء . وتدخل بعض النسوة في النقاش فيتهمهن الحاكم بالجنون . يفتح فتحي دكانه ويسمع تعليقات الناس : هذا قتل كلبين سيحصل على عشرة دينارات وذاك اصطاد ثلاثين فأرا وكل فأر مكافأته خمسة دنانير ويحتد الحوار والنقاش والخصام بين اثنين كل واحد منهما يدعي أنه قتل الكلب فبالتالي تكون المكافأة له دون غيره " اقسموه انت حتة وهو حتة "(58) .
ويسرد المؤلف العديد من المواقف المضحكة بطريقة السيد حافظ الفكاهية كالخلاف الذي نشب بين الأب وابنه كل منهما يتهم الآخر بأنه سرق له صيده الثمين (30 فأرا). في خضم هذه المواقف الهزلية الساخرة تدخل أخت عزيزة التي جاءت لتأخذ أدباش أختها وتصفي تركتها فيستغرب فتحي وقسام من الشبه بين الأختين تطلب من قسام مرافقتها إلى بيت أختها بينما يأتي عمران زوج أخت فتحي ويشتكي لصهره عجزه الجنسي الذي أصابه بعد أن رأى عملية خصي لأحد أصدقائه لأنه تبول في الشارع العام
يعبر عمران عن عجزه الذي سبب له الانغماس في السكر والعربدة فيقترح عليه صهره أن يأخذه إلى أحد المشعوذين ولكن سلمى أخت فتحي تقطع عليهما الحوار قائلة بأنها تريد أن تشتري حمامتين لمعالجة زوجها فيرفض ولكنها تصر على معالجته وتبدأ بمدحه وإطرائه بأنه سيد الرجال وأقواهم . تحاول سنية أن تعرف سبب موت أختها عزيزة من قسام ومن غيره ولكن لا أحد يطيعها جوابا شافيا فتحتار ، وإذ بالحاكم يدخل دكان فتحي فيطمئن على أن الوباء قد خف نتيجة تطبيق القوانين الصارمة التي أصدرها ثم تحدث مشاجرة أمام الحاكم إذ أن شخصاً سطا على كلب جاره وهو كلب نظيف روماني وأكله فجاء يشتكيه إلى الحاكم فينكر في البداية ثم يعترف بأكل الكلب . وبعد الحكم في الخصومة بين مربي الكلاب الثري وآكل الكلب ينتبه الحاكم إلى سنية فيسأل عنها الحضور فتقدم هي نفسها بأنها أخت عزيزة وجاءت لتأخذ ميراث أختها . وتنتاب الحاكم لحظات ضعف جديدة كما وقع له مع أختها عزيزة فينهرها متهما إياها : " أنت ريح تعصف بقلبي المتعب "(59) . ويدخل معها في حوار شيق فيختلط الحلم بالواقع عند سنية وعند الحاكم ، كل منهما يرغب في الآخر وينفر منه بالقوة وأخيرا يأمر الحاكم بأنه ينبغي على هذه المرأة أن ترحل بسرعة وأن تصفي تركة أختها بأسرع ما يمكن وإذا لم تجد ثمنا للبيت طلب الحاكم أن تعطى الضعف وأن ترحل بسرعة . ولكنها تسأل الحاكم كيف ماتت أختها فيجيبها بأنه هو الذي قتلها مع عشرين ألف امرأة .
يقترب رمضان فيأمر الحاكم أن تقام موائد الرحمان للإفطار في كل أحياء القاهرة . يعود ابن الدواس من المغرب راغبا في التخلص من الحاكم فيأتي إلى ست الملك ويناقشها في تجاوزات الحاكم ونقمة الناس عليه وخاصة التجار فترد ست الملك بعنف وتتهمه بأنه يريد العرش حتى وإن عبر لها عن حبه ، فينكر أنه يريد العرش بل يريد تخليص المسلمين من كابوس الحكم ، وفجأة يدخل الحاكم فيمد سيفه إلى ابن دواس ويطلب منه أن يقتله إذا كان في ذلك خير المسلمين فتتدخل ست الملك ولكن الحاكم يصرخ في وجهها : " لا تتدخلي فيما لا يعنيك ، لك أمور القصر والطعام والحريم ، اخرجي من شؤون السياسة إلى شؤون المطبخ ... "(60) .
ثم يدخل الحاكم في حوار غاية في الحدة مع ابن دواس الذي اشترط الأمان قبل أن يرد على الحاكم ويناقشه في المجازر التي ارتكبها ، والحماقات والمتاهات التي أدخل فيها العامة والخاصة ، وينهي ابن دواس حواره بتهديد الحاكم بأن التاريخ سيشوهه أمام الأجيال اللاحقة . هنا تبدو علامات الهزيمة على الحاكم الذي يتدخل ابنه الظاهر بعد أن غادرهما ابن دواس ويسأله عن السبب في ذلك فيجيبه الحاكم بكل مرارة : " ما يقوله هو الصحيح ... التاريخ سيشوهني لأن من يكتب التاريخ أعداء عدل الحاكم ..."(61) .
يحاول الظاهر أن يصالح بين أبيه وعمته ولكن الحاكم يرفض رفضا قاطعا ويفرض على ست الملك نوعاً من الإقامة الجبرية .
يبدأ مشهد محاكمة الحاكم من طرف المؤرخين مثل ابن اياس والمقريزي وشمس الدين الذهيبي ومعهم شهبندر التجار ، وينتهي الحاكم بطلب الاستغاثة من الحكم القاسي الذي أصدره أعداؤه رغم إنجازاته العديدة التي حققها والتي أهملها المؤرخون الذين حاكموه . تدخل ست الملك على الحاكم وتدخل معه في نقاش حول علاقتهما التي تدهورت شاكية من الحصار الذي يضربه حولها معددة الخدمات التي قدمتها له وللدولة الفاطمية ، يحاول الحاكم التخفيف عنها ويعاتبها على العلاقة التي تربطها بابن دواس ويخبرها بأنه خطبها أكثر من مرة ورفض الطلب ورغم العتاب والإلحاح تبقى قرارات الحاكم صارمة لا مجال لنقضها فتتمنى ست الملك الموت على أن تعامل هذه المعاملة .
تخرج ست الملك غاضبة ويدخل مجموعة من العلماء من بينهم الحسن بن الهيثم الذي يعرض عليه الحاكم التفكير في إنشاء سد لخزن مياه النيل وربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط وينتهي اللقاء بإسناد منح هامة للعلماء والباحثين والقضاة .
بعدها يدخل رئيس العسس ويعلم الحاكم أن مؤامرة تدبر ضده من طرف صديقيه قسام وفتحي ولكن الحاكم يصل إلى نتيجة أن المؤامرة غير صحيحة وصديقاه بريئان منها ثم تدخل سنية مع الحاكم الذي أراد إغراءها بكل شئ لتتركه وتسافر ولكنها رفضت وتعبر عن تعلقها به كشخص وأخيرا يتذرع لها بأنه " محب وعاشق للقاهرة "(62) فتجيبه أن القاهرة مدينة بينما هي بشر تحس ، تحب وتشعر ، ويصر على تعلقه بالقاهرة من جديد وتصر هي على التعلق به وفي الختام يتوسل إليها كي تسافر وتتركه : " أنا ضعيف أمام الله . ضعيف أمام الجمال المطلق وفي عينيك أرى ضعفي أتوسل إليك أن ترحلي ، ارحلي وخذي ما شئت وهذا خاتمي أوقع لك على أمان ... "(63) هذا الرجاء حتى الخضوع جاء نتيجة خوف من أن يضعف أمام المرأة شيطان الأنوثة والجمال ولكنها تخرج دون أن تأخذ أي شئ . يخرج الحاكم ويتجه إلى صديقيه ويلتقي ابن دواس بست الملك فيتناقشان ويفكران في حل للتخلص من الحاكم بعد أن ينضم إليهما شهبندر التجار ويخبرهما بأن البلاد والعباد ضجوا من الحاكم وبالتالي وجب قتله فتصعق ست الملك لهذا القرار القاسي " غدا في المساء سيتم قتله في المقطم أو السوق. "(64) وتصرخ ست الملك يا إلهي وتخرج . ثم يبدأ مشهد التهيئة لاغتيال الحاكم بين ابن دواس وشهبندر التجار وشاب متعصب للإسلام يوغرون صدره على الحاكم : " هذا الحاكم بأمر الله قد كفر وادعى أنه الله وأنه يحيي ويميت وأن لا إله غيره "(65) . وعندما يمتلئ الشاب حماساً بعد الشحنات التي زوداه بها قال " سأقتله غيرة لله وللإسلام "(66) .
وفعلا يتفق الثلاثة على المكان والزمان الذي ستتم فيه عملية القتل .
يعود المؤلف إلى حي امبابة وفتحي الشواء وقسام وجماعة الحي حيث يطلق عمران سلمى أخت فتحي الشواء ويدخل عليهم الحسن بن الهيثم واصفاً لهم عجزه عن القيام بالمشاريع التي طلبها الحاكم فينصحونه بالتظاهر بالجنون ويدخل عليهم الحاكم ويتهمهم بالخيانة مازحاً أمام رئيس العسس وعندما يرى أحد النخاسين يسوق مجموعة من العبيد يصدر أمرا يمنع تجارة ويعود إلى المزح مع صديقيه حول المؤامرة وفي النهاية يأمر رئيس عسسه بأن يدفع لفتحي وقسام كل واحد منهما مبلغ ألف دينار كتعويض عن الادعاء الكاذب حول المؤامرة المزعومة ، ويظهر الحسن بن الهيثم وهو مجنون والأطفال يركضون وراءه فيأسف الحاكم لحاله .
يعود الحاكم إلى قصره ويلتقي بأبنائه أولا فيلاطفهم ثم يلتقي بأمه وزوجته ، فيعتذر من زوجته على ما سببه لها من أتعاب . يقوم الحاكم ببعض الأفعال كأنه بدأ يحس بقرب أجله فتسأله أمه عن السبب فيجيبها بأنه رأى النجم المشؤوم ، فتحذره من الخروج ويصر على الخروج رغم تحذير أمه ويطعن الحاكم .
طعن الشاب بعد أن شحنه ابن دواس وشهبندر التجار بتعصب إسلامي أعماه عما سواه وهذه نهاية أولى ، إذ أن الكاتب الأستاذ السيد حافظ جعل للنص نهاية ثانية محتملة .
النهاية الثانية ، ويبدأ هذا الاقتراح من ذلك الحوار الذي يدور بين الحاكم وأمه حول التحركات والتحولات التي تجري في القصر بأمره فيجيبها بعموميات ويخبرها بأنه رأى النجم المشؤوم فتحذره من الخروج ولكنه يصر ويطعن في حارة برجوان من طرف ابن حسيب الشاب المتعصب للإسلام والمسلمين : " قتلته قتلته ثأرا لله وللمسلمين "(67) .
يركض ابن حسيب تجاه أصدقاء الحاكم فتحي وقسام حاملا معه قطعة من جسد الحاكم وهو يصرخ بأعلى صوته بأنه قتل الحاكم فيستغرب الجماعة ويتهمونه بالجنون ثم ينتحر بخنجر صارخاً أنا شهيد . ويشيع خبر مقتل الحاكم فتزغرد النساء ويكثر الهرج والمرج والناس بين مصدق ومكذب وثالث مؤمن باختفاء الحاكم الذي سيعود يوماً ويملأ الأرض عدلا .
حاولنا تلخيص المسرحيات الثلاث بشيء من الإطناب وذلك بغية إفادة القارئ الذي لم يطلع على المسرحيات لكي يأخذ فكرة متكاملة (بالرغم من أن كل تلخيص هو تشويه) عن هذه المسرحيات المعبرة بشكل أو بآخر عن مسيرة الكتابة المسرحية العربية سواء كانت في المشرق أو في المغرب وخاصة أن موضوع المسرحيات واحد فهو أكثر دلالة وأصدق تعبيرا عن الفروقات في الأساليب والرؤية سواء من خلال الأجيال (باكثير وحافظ) أو الأقطار (حافظ والقهواجي) أو التوجهات الفكرية والرؤى الجمالية (حافظ ـ باكثير ـ القهواجي) .
نبدأ حديثنا من عنوان العمل ، حيث عنون باكثير مسرحيته بـ "سر الحاكم بأمر الله" وكأنه يكتب فصلا في كتاب للتاريخ الفاطمي عنوانه سر الحاكم بأمر الله وكأن الكاتب كان مشغولا فقط بسر الحاكم محاولا الكشف عن السر واعدا إيانا بأنه سوف يوضحه نظرا لأن وظيفة العنوان أساسية لأي مؤلف فهو يختصر ويكثف ويوحي ويدل ، فهو مبتدأ والمتن خبره ، على رأي النقاد البنيويين . وفعلا ظل باكثير طوال المسرحية وكأنه يبحث عن سر غامض في شخصية الحاكم بأمر الله . إن كلمة السر تحيلنا مباشرة إلى المفتشين المشهورين في الشرطة العالمية ( شارلوك هولمز أو كولمبو). وفعلا عندما وصل باكثير إلى سر الحاكم بأمر الله بدأ يصرخ كما صرخ أرخميدس وجدتها وجدتها (لقد كانت مؤامرة فارسية على الإسلام) هذا هو ما غمض من السر .
جاء عنوان مسرحية باكثير " سر الحاكم بأمر الله " جملة اسمية متكونة من مضاف ومضاف إليه زادها تخصيصا بمضاف ومضاف إليه ثان وكأنه انطلق في تحديد عنوانه
من الجزء إلى الكل سر الحاكم أمر الله ، فإذا اعتبرنا العنوان مبتدأ والنص خبره على حد تعبير رولان بارت نقول : إن علي أحمد باكثير حدد في العنوان محتوى النص إذ أن باكثير أراد أن يقول لنا إنه سيكشف سر الحاكم بأمر الله في هذه المسرحية . وفعلا حاول كشفه وتفسيره . وإذا كان العنوان مكونا من أربعة أسماء دون وجود أفعال فإن هذا النص المسرحي بقي محصورا في العنوان سر الأسرار دون الدخول في مغامرة الفعل العلني حسب ما تقتضيه تقنيات العمل الدرامي.
أما الأستاذ البشير القهواجي فقد وضع لنا عنوانا بعيداً عن التاريخ "بيارق الله" فأحالنا مباشرة إلى الفتوحات والغزوات والحروب والمعارك والانتصارات والانكسارات والجهاد في سبيل الله ونشر فكر ، ودعوة إلى قضية ما ، أو إلى ايديوليجية مقدسة فبدا الاستشهاد ضروريا بالآية " فلا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " . جاء عنوان البشير القهواجي أيضا متكونا من مضاف ومضاف إليه ، يعني أنه كان أيضا جملة اسمية ، وهو أقصر العناوين الثلاثة (من كلمتين فقط فكانت البلاغة في الإيجاز) .
لقد كانت رؤية البشير القهواجي من خلال عنوانه دالة على المطلق ولكن المطلق الإسلامي في رؤية العالم والكون من خير وشر وإيمان ونضال في سبيل نشر مبدأ أو قناعة والدفاع عنها حتى الموت .
أما بخصوص الأستاذ السيد حافظ فقد جاء عنوانه أطول العناوين أو أكثر العناوين بعدا عن التاريخ وعن اللاهوت الإسلامي " حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله " ، إذ أن الجملة الأولى في العنوان تحيلنا إلى المجتمع المصري وفنون حلوياته العديدة والمتنوعة " حلاوة زمان "
\وكأنه يحيلنا إلى أسف ما على هذه الحلاوة التي كانت في عهد ما وانقرضت ، وتركيبة الجملة تحيلنا إلى اللهجة العامية المشرقية وكأن المسألة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالشعب ثم يزيد من التخصيص عندما يذكر الجملة الثانية " أو عاشق القاهرة " فإذا كانت الجملة الأولى تحيلنا إلى المجتمع المشرقي العربي أو لربما الشعب المصري تحديدا فإنه مع عاشق القاهرة يحيلنا إلى فضاء مكاني محدد وهو مدينة القاهرة وكأنه خرج من فضاء الشعب باتساعه وعاميته فدخل فضاء القاهرة بارستوقراطيتها وطبقتها الحاكمة عن طريق تلك الجملة العربية الفصيحة عاشق القاهرة . ولفظة العشق تدفعنا إلى التوجه برؤيتنا إلى تاريخنا سواء كان من حيث جانبه المادي وهو عشق المرأة وما مثلت في الشعر العربي بشقيه العذري والإباحي أو من جانبه الروحي مع التصوف الإسلامي . ثم يلتقي مع باكثير عندما يضيف الحاكم بأمر الله ، إذ أنه مع هذه الإضافة يزيد المسألة تخصيصا : مشرق مصر القاهرة الحاكم ( قصر من قصور الفاطميين ) ثم ينطلق منها إلى الكلية الله وكأن أضلاع المربع الذي تصوره السيد حافظ هو كالآتي :الشعب ، القاهرة ، الحاكم ، الله .
وإذا حاولنا أن نتلاعب بتركيب السيد حافظ في هذا العنوان لقلنا الله يحكم الشعب في القاهرة ولا غرابة في ذلك ادخلوها بسلام آمنين .
إن عنوان مسرحية السيد حافظ هو الأطول بين العناوين الثلاثة وعنوان بشير القهواجي هو الأقصر ، وكلمة الله قد وردت في العناوين الثلاثة وجاءت مضافا إليها عند الكتاب الثلاثة . أما لفظة الحاكم بأمر الله عند السيد حافظ وباكثير فقد وردت مضافا ، أما عند القهواجي فقد جاءت مضافا إليها " بيارق الله " فالأمر واجب وطاعة ، وأما البيارق فجهاد ونضال وتصوف وإن كانت الطاعة واجبة في كل الحالات . ولكن هل وقعت الطاعة ؟ وطاعة من لمن ؟ هل هي طاعة الحاكم لله أم طاعة الشعب للحاكم ، أم طاعة الشعب لله . وقد ثبت لنا من خلال النصوص الثلاثة أن الطاعة لم تكن كاملة ، فطاعة الحاكم لله سواء عند القهواجي أو باكثير أو السيد حافظ قد اعتراها نوع من التمرد إذ أن الحاكم لم يكن ذلك البشر الخاضع المستسلم لله وأمره ومشيئته وبدا التمرد على غاية من العنف عند علي أحمد باكثير وهو الباحث عن سر هذا التمرد لأن باكثير ظل مهووساً بسر الحاكم وخاصة سر تمرده ، هذا التمرد الذي دفع إليه دفعا فلم يكن عن قناعة ذاتية كما هو الحال عند القهواجي أو حافظ .
سجل باكثير قمة التمرد بقوله : " سبحانك يل مولانا ، ما أعظم آياتك ، وأسطع بيناتك ، يا أحد ، يا محيي ، يا مميت ، يا قائم الزمان ... "(68) ولهث علي أحمد باكثير باحثا عن عذر للحاكم في عدم طاعته لله ، بل طلب طاعته هو باعتباره إلهاً ووجد ضالته في مؤامرة فارسية جاءت لتخريب الإسلام وألصق تهمة جعل الحاكم يتمرد على الطاعة بسبب أحد الدروز المتأثرين بالفكر الفارسي ما قبل الإسلام ( من مزدكية وخرمية وبابكية ) وهنا يلتقي نص باكثير مع النص التاريخي : " ثم عن له أن يدعي الربوبية وقرب رجلا يعرف بالأخرم ساعده على ذلك وضم إليه طائفة بسطهم للأفعال الخارجة عن الديانة "(69) بل أن باكثير نقل النص التاريخي حرفيا دون إشارة إلى المصدر " وتقرب إليه جماعة من الجهال فكانوا إذا لقوه قالوا : السلام عليك يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت .. "(70)
نفس الجملة وردت في النجوم الزاهرة ووردت عند باكثير . التمرد واضح حلله باكثير وحاول تبيان أسبابه ومسبباته ولكن الطاعة تفرض نفسها على الحاكم بأمر الله في آخر المسرحية حيث أن باكثير حاول أن يميت الحاكم وهو مسلم مستسلم لقضاء الله وقدره ومشيئته وكان باكثير نصب نفسه مفتياً أو شيخا من شيوخ الإسلام ، مهمته تتمثل في جعل الحاكم يموت مسلما حتى تكتب له جنة الخلد .
أما تمرد الحاكم عند بشير القهواجي كان أقل حدة وأكثر وضوحاً وأكثر منطقية باعتبار أن الحاكم كان عالما فيلسوفا منجما وتلتقي هذه الصفات مع بعضها لتعطي متصوفا إسلاميا لا يبتعد كثيرا عن الحسين بن المنصور الحلاج الذي " وضع أسس الاتحاد والحلول والفناء في الذات الإلهية من خلال معادلة معقدة بتأله فيها الإنسان ويتأنس الإله ... " (71) تصوف الحاكم بأمر الله عند القهواجي فتأله لكنه ليس تأله باكثير ، فهو أقل حدة إذ أن تأله الحاكم عند باكثير تأله عنيف فيه نفي الرب وإثبات رب جديد محله أما تأله الحاكم عند القهواجي فهو تأله شطح صوفي ، تأله ينساب انسياباً فلسفيا كانسياب النيل : " لأن الصوفي إذ يقول بالوحدة المطلقة يجعلها أيضا للعلاقة الحميمة بين فكره ومسلكه فيتحدان في الهذيان والخروج عن مقتضى المنطق السائد ولا يبالي عندها أن يرميه الغير بالحجارة ... "(72) .وهذا الحاكم بأمر الله يعبر عن تألهه بطريقة شاعرية تطغى عليها لمسحة الصوفية : " أنا كلمة الحق ، أنا سر الأسرار ، أنا الحاكم الجبار ، أنا صاحب البستان والتنور ، أنا سلطان تخوم الظلمة وسلطان تخوم النور ، أنا مفرد الخلق ، أنا فعل العشق ... "(73) .
الحاكم بأمر الله عند القهواجي لا يحيي ولا يميت مثلما هو الحال عند أحمد باكثير وفي النص التاريخي بكتاب النجوم الزاهرة .
ولكن إذا التفتنا إلى الحاكم بأمر الله عند السيد حافظ وتساءلنا هل تمرد عن طاعة الله ؟ وجدناه لم يبد تمردا واضحا لأن هدف السيد حافظ لم يكن أبداً هدف سابقيه ، إذ بقدر ما كان العامل الميتافيزيكي يحرك القهواجي وباكثير فإن العامل المادي هو الذي كان يحرك السيد حافظ . لذلك رأينا آثار تمرد الحاكم في حالة واحدة وهي حالة إيمان الحاكم بالنجوم والتنجيم والمنجمين بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التنجيم بقوله " كذب المنجمون ولو صدقوا " .
الحاكم عند السيد حافظ لم يأخذ بهذا الحديث بل آمن بالتنجيم واعتقد فيه : " شاهدت النجم المشؤوم الليلة في السماء ... "(74) . ولكن بعض الصفات الدالة على تمرده قد صدرت من خصومه وخاصة من الرجل الذي قتله : "كافر ، قتلته ، قتلته ثأرا لله وللمسلمين ... "(75) .
اهتم السيد حافظ بالحاكم بأمر الله ليس في تمرده على طاعة الله ، إذ أن هذه المسألة لا تهمه ، بل اهتم بعلاقته بالناس ، بالشعب ، بالحياة اليومية .
لقد تمرد الحاكم عند السيد حافظ تمردا اجتماعيا ماديا عن السلطة وأخلاقياتها ، فإن كان باكثير والقهواجي قد بحثا عن علاقة الحاكم بالسماء فإن السيد حافظ قد بحث عن علاقته بالأرض ، بالناس، بالحياة اليومية . وهنا يتميز السيد حافظ عن سابقيه بطرح فكري اجتماعي يكاد يلامس الطرح الاشتراكي لمقاربة السلطة وعلاقتها بالمجتمع وبالتالي كانت مسألة الطاعة والعصيان والتأله مسائل ثانوية جدا عند حافظ . وإذا أردنا أن نتحدث عن طاعة الشعب للحاكم فإن هذه الطاعة كانت أكثر وضوحاً عند السيد حافظ لأن الشعب كان يحاكم خليفته على أساس أفعاله اليومية ، وإحساسه بالفقراء والمساكين وتعاطفه مع المظلومين الذين ملأ فضاءهم عدلا وإحسانا وأمانا فأطاعوه وأطاعوا الله والرسول من ورائه باعتباره ولي الأمر .
أما باكثير والقهواجي فقد صورا الانتفاضات والقلاقل والتململ والتمرد على الحاكم بأمر الله وكأنهم جعلوا من عنصر الصراع ـ المتسبب حسب البعض في غياب المسرح عن الثقافة العربية الإسلاميةـ بين الحاكم والشعب من الركائز الأساسية لنصيهما المسرحيين ، فكان صراع الحاكم مع الله أولا وصراع الحاكم مع الشعب ثانيا ، فتحقق الصراع العمودي الغائب عن ثقافتنا العربية الإسلامية ـ على رأي محمد عزيزة (76) ـ أما صراع السيد حافظ الذي صور الحاكم يخوضه كان صراعاً أرضياً ، لأنه صراع طبقي ( ضد التجار والارستوقراطية قبائل كتامة والقضاة ) صراع ضد الظلم ، صراع ضد المرض والوباء ، وصراع داخلي أكثر عنفاً وحدة ، وهو صراع ضد الشهوة ، أو بتعبير آخر صراع ضد الغريزة المتمثلة في الجنس والأكل …
الصراع خيم على النصوص الثلاثة واختلف قوة وضعفا بين الكتاب الثلاثة ، إلا أنه كان صراعاً دمويا كثر فيه القتل وتعددت الضحايا حيث وصل إلى قتل الأطفال عند باكثير وقتل المرأة عند السيد حافظ ( بالعشرات دفم أحياء ) . فكانت الدماء تنساب في شوارع القاهرة في عهد الحاكم بأمر الله ، عهد القتل والعنف والدم كما ورد في النصوص التاريخية : " وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى ... "(77) . وقتل رفاق الدرب السابقين مثل ابن دواس وأرجوان وغيرهما كثير ، وتعذيب أخته ست الملك ، بل لم يكتف بالقتل المتعارف عليه بل ذهب إلى الحرق مثل نيرون تماما عند بشير القهواجي . أو القتل الجماعي في الحفرة الواحدة من النساء خاصة إغلاق الحمام على من فيه ليموتوا مختنقين ، نساء ورجالا ، أو الإلقاء من أعالي الجبال عند السيد حافظ أو وضع النساء في صناديق وإلقائها في النيل مثقلة بالرصاص بعد إحكام غلقها على من فيها من البشر .
نادرا ما يولد الإنسان مطيعا فالتمرد صفة من صفات الإنسان ، والتمرد يولد صراعا ، وبعد الصراع يمكن أن تحدث الطاعة سواء قسرا أو اقتناعا ، المهم أن الصراع كان نتيجة التمرد الذي سيقودنا بالضرورة إلى الحديث عن قطبي هذا الصراع في المسرحيات الثلاث مع الإشارة إلى الهدف الذي كان ينشده البطل في النصوص المذكورة وسوف نبدأ بمسرحية علي أحمد باكثير .
استطاع الحاكم بأمر الله بطل علي أحمد باكثير أن يجمع حوله العديد من المساعدين سواء كانوا من المصريين كالحاجب وعبد الرحيم بن الياس وكاتب الدست ومساعد الكاتب ونسيم السياف وقائد القواد والوزير والعديد من العبيد الخاضعين لسلطته دون أن نغفل الشخصيات النسائية القريبة منه : أمه وزوجته وبعض جواريه مثل شمس ونرجس وغيرهما ، كما اندس في معسكره مجموعة من المتآمرين على الإسلام منهم حتكين ، حمزة ، حسن الأخرم ، الدرزي ، التميمي الذين يظهرون شيئا ويخفون شيئا آخر ، لأن هدفهم كان تدمير الحاكم وتدمير الإسلام كعقيدة وإيمان ويبدون مساعدة الحاكم ودفعه إلى إعلان تألهه على الناس ، وعندما يكتشف الحاكم حقيقتهم ينقلبون عليه ويحاول من بقي منهم على قيد الحياة قتل الحاكم ولكنهم يفشلون .
أما القطب المعارض ، فقد تزعمته ست الملك أخت الحاكم التي تمتلك الشرعية التاريخية للوقوف ضد الحاكم فهي ابنة العزيز المدللة ولكن العائق الوحيد الذي يمنعها من أن تكون نده ، هوأنها امرأة وهو عائق ديني أخلاقي اجتماعي . استطاعت ست الملك أن تقف ضد الحاكم رغم أنوثتها عندما حاول الحاكم تدمير العوامل الثلاثة التي تستند إليها الخلافة وهي العامل الديني والعامل الاقتصادي والعامل الاجتماعي ، إذ أنه نسفها من أساسها عندما ادعى الألوهية وهي أكبر المعاصي بل قمة الإلحاد عند المسلمين ، وبذلك استطاعت أن تفتك منه شرعية السلطة / الدولة المبنية أساسا على الشرعية الدينية التي دلت أفعاله على أنه سيدمرها . اعتمدت ست الملك على شرعيتها الملكية (ابنة العزيز) فاستطاعت أن تستقطب رجال الدين من المذاهب الأربعة ( السلطة الدينية ) والتجار على اختلاف حرفهم ومهنهم ( السلطة الاقتصادية ) والعلماء من منجمين وغيرهم ، كما استمالت ابن الدواس (عن طريق الترغيب العاطفي الجنسي) وهو قائد جند المغاربة من القبائل البربرية كما جلبت إلى صفها قائد جند الأتراك (الآلة العسكرية) كما استمالت إلى صفها العديد من الفئات الشعبية التي ضاقت ذرعاً بالحاكم وشطحاته الجنونية (من قتل وافتراء على الناس وتمرد على الدين والدولة).كما نلاحظ أن هذا القطب قد استطاع بزعامة ست الملك امتلاك السلطات الثلاث الدينية والاقتصادية والعسكرية وتبلغ قمة الصراع عندما يعلن الحاكم ألوهيته ويتهم أخته بالزنا ويقرر عرضها على القابلات لفحصها والتثبت من عذريتها "اذهبي الآن إلى قصرك لأبعثن لك القوابل لاستبرائك نعم ألست عذراءهم ألست تقولين إنك رغبت عن الزواج لتوفري على صيانة ملك أبيك ؟ … "(78)
استطاع الحاكم أن يختار نقطة الضعف عند المرأة العربية الإسلامية وهي فرجها :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
وكان الحاكم يعرف جيدا أن العربي المسلم يدبن بالقتل كل علاقة غير شرعية بين الرجل والمرأة وكان يعتقد أيضا أنه وجه لأخته الضربة القاضية لكي ينفض من حولها مساعدوها وبذلك تبلغ عقدة المسرحية ذروتها .
كان الحاكم بأمر الله يطمح إلى امتلاك السلطة الدينية المطلقة عندما ادعى الربوبية وكأن السلطة السياسية لم تكفه فأراد أن يمتلك رقاب الناس دنيا وآخرة ، دينا ودنيا وأن يصفي خصومه الواحد تلو الآخر حتى يصبح معبودا للخلق عامة ويحقق نوعا من الخلود . ظل الحاكم خلال مسيرته الصراعية النضالية يرتقي الدرجات الواحدة تلو الأخرى فزيادة عن الحاصل وهو السيطرة السياسية أضاف إليها العلوم وخاصة الفلكية التي تحيل إلى علم الغيب فكانت المقدمة الضرورية لادعاء الألوهية باعتبار أن فن التنجيم (النجوم) نوع من محاولة معرفة علم الغيب وهي صفات الله ولذلك أدان الإسلام كل ما يقرب الإنسان من الألوهية ( التنجيم ، السحر ، الشعر ، الرسم … ) .
حاول علي أحمد باكثير أن يجد عذرا للحاكم بأمر الله لمغامرته التألهية ولكنه تناسى أن الحاكم كان مستعدا لأن يتأله بدون تآمر من الفرس أو غيرهم .
أراد الحاكم أن يحقق لنفسه السلطة المطلقة حتى يتحكم في الناس كيفما شاء وبدون منازع أو منافس وأعتقد أنها مسألة إنسانية عادية توصل إليها مكيافيلي في "أميرة" منذ قرون . ولكن الصراع منذ البداية كان محسوم النتائج نظرا لأن الحاكم يناضل ميتافيزيكيا بينما كانت ست الملك تعارض ماديا كما كان صراع انطيقون ضد كريون ، انطيقون كانت مع الميتافيزيك وكريون كان مع قوانين الدولة ودعائم وجودها فكان انتصاره على انطيقون . لذلك انتصرت ست الملك وانهزم الحاكم الذي حمل مسؤولية هزيمته على المتآمرين "بل غررت بي يا ملعون واستدرجتني إلى دعوى الألوهية"(79) ثم ينهار كليا " يا رب اغفر لي جهلي وحمقي ، رب خلصني من هذا الجسد اللعين ، طهرني من رجسه اقبض روحي إليك (يبكي) الآن ! الآن ! الآن ! ."(80)
يخسر الحاكم إنسانيته ويخسر الألوهية التي حاول اكتسابها ففقد الاثنين ومات .
إذا تركنا باكثير وذهبنا إلى البشير القهواجي الذي كان الحاكم عنده أكثر منطقية رغم إغراقه في الميتافيزيك وهنا يلتقي القهواجي مع باكثير في أن الحاكم خاض صراع التأله بمثالية كبيرة لم تأخذ بعين الاعتبار المعطيات المادية للمجتمع . كان الفواعل في نص القهواجي أكثر وضوحا وأكثر منطقية وأكثر أرسطوطاليسية . إذا حاولنا أن نقسم الفواعل إلى أقطاب نقول أولا إن قطب الفواعل المساعدين الذي يتزعمه الحاكم تسلح بالفكر والعلم والرياضة الروحية وهو يضم زيادة على الحاكم بأمر الله جبريل وراشدة زوجة الحاكم وهم بشكل عام سلبيون غارقون في مثاليتهم سواء الحاكم المغرق في علومه الفلكية ورياضته الروحية وشطحاته الصوفية أو جبريل وهو أقرب المقربين إلى الحاكم الخاضع لأوامره المنبهر بشخصيته الذائب في روحانيته وراشدة تمثل الزوجة التقليدية التي ضربت عليها المذلة والمسكنة أمام زوجها الحاكم .
ولكن إذا نظرنا للقطب الثاني للصراع فإننا نجد امرأة نقيضة لراشدة تتزعم هذا القطب فهمت دواليب الدولة وعرفت المصالح السياسية ، تحركها العوامل المادية بعيدة عن الغيبيات . تحالفت مع الجهاز العسكري وآلته الجهنمية المتمثلة في أرجوان وابن دواس وفكت رموز ميكانيزماتها من مكر وخديعة ودسائس ، ووجدت مع هذا القطب امرأة تختلف أيضا عن راشدة وعن ست الملك ميزتها الذكاء والخبث وهي خيزران . وهناك مجموعة ثالثة بقيت نوعا ما على الحياد تميل مع النعماء حيث تميل ويمثلها الأحدب والمسكون والوقاد القبطي والعبد ورئيس الممرضين والممرض العجوز . ولكن هذه المجموعة تتخذ موقفا مع الحاكم وتلعب دورا هاما في قلب الأوضاع فتصبح فواعل مساعدة للحاكم وجماعته عندما تطورت الأحداث لصالحه .
لقد حدد الحاكم الهدف الذي يسعى إليه وهو بناء المدينة الفاضلة ، مدينة الله : " سنبتعد يا راشدة ، غدا نخرج إلى الصحراء نبني مدينة الله ... "(81) والبناء حسب رأى الحاكم لا يتم إلا بعد التطهير ، فلكي يبني ينبغي أن يدمر وأن يهدم ، فالبناء لا يكون إلا على أسس صحيحة وثابتة فمسألة الترميم لا تنفع لبناء مدينة الله . المدينة الجديدة التي يحلم بها الحاكم كما حلم بها أفلاطون من قبل وحلم بها الفارابي وحلم بها الكثير من المفكرين معهم : " قد وهبكم الله أمر الحياة ، غدا تخرجون بالرسالة تبشرون الناس بخلاص الأرض وخلاص الروح ، التربة نضجت في النار ، غدا تخططون فوق الرماد قاهرة الله . عملتها لبنات الفضة وحاكمها القوي الحكيم الزاهد ... " (82) .
إن طوباوية الحاكم في هذه المسألة واضحة للعيان وما يزيدها تأكيدا هو اختفاؤه في آخر المسرحية : " انفجار هائل يغيب أثناءه الحاكم ... "(83) .
يلتقي البشير القهواجي حول مسألة الهدف من تأليه الحاكم مع باكثير ويختلف معه ، ويلتقي مع السيد حافظ كما سنرى ويختلف معه أيضا في نفس الوقت ، الحاكم عند باكثير يطمح إلى الربوبية لكي يملك رقاب العباد دينا ودنيا وعند القهواجي يطمح إلى الربوبية أيضا ولكن ليبني مدينة فاضلة ، مدينة الله . فإذا كان الحاكم عند باكثير لا يرى إلا نفسه أي أنه أناني إلى درجة المرض ، فإن الحاكم عند القهواجي يحس بالمجموعة لأنه سيبني لهم مدينة تضمهم وحاكمها قوي زاهد ، يعني أنه مع مجموعة وليس وحيدا كما هو الحال عند باكثير . والكاتبان ينظران إلى الحاكم نظرة ميتافيزيكية ولذلك يهزم الحاكم عند الأول بإعلان إسلامه من جديد ويدفع حياته ثمنا لهزيمته ، كذلك نهايته عند بشير القهواجي ، نهاية مهزومة لأنه يرتفع إلى السماء ولكنه سيعود ولا يفقد الأمل في العودة .
إن السيد حافظ يرى هدف "حاكمه" هدفا أرضيا تكسوه مسحة العدالة الاجتماعية ، لذلك صوره يتحرك بدافع اقتصادي مادي ، وهنا يتناقض كلية مع الكاتبين الآخرين باكثير والقهواجي .
أراد الحاكم عند السيد حافظ أن يبني مدينة فاضلة أيضاً ، وهنا يلتقي مع القهواجي ويختلف معه في نفس الوقت ، إذ أنه لا يطرح قضية المدينة الفاضلة طرحاً طوباويا كما فعل القهواجي ولكن بطرح أرضي بعيد عن السماء . طرح كل من السيد حافظ والبشير القهواجي مسألة المدينة الفاضلة لكن القهواجي بمثالية أفلاطون والفارابي ، والسيد حافظ بمادية أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي والقرامطة . كذلك يمكن أن نلاحظ أن حاكم السيد حافظ يختلف عن حاكم القهواجي وحاكم باكثير فهو لم يدع الربوبية ، فكان أبعد ما يكون عن الأنانية ، لأنه يعيش مع الجماعة ويتنقل مع الجماعة ويلبس مع الجماعة ويأكل مع الجماعة ، فاستمد قوته من المجموعة التي تحيط به فلم يحس بضرورة ادعاء الربوبية .
يلتقي السيد حافظ في تحديد نهاية الحاكم عن طريق القتل مع باكثير ويختلف فيه مع القهواجي ، إذ كان القتل ناتجا عن مضايقات التجار والقضاة والمستغلين عموما عند السيد حافظ ، أما سبب القتل عند باكثير فسبب ديني متأتٍ عن الهرطقة وادعاء الألوهية ، أما البشير القهواجي فقد جعل الحاكم يختفي اختفاء ( مؤثرات شيعية أو بتأثير من محمود المسعدي في مسرحيته السد ) .
يختلف السيد حافظ مع سابقيه باكثير والقهواجي في تحديد قطبي الصراع ، فالحاكم وأخته ست الملك يبدآن صراعهما وهما في خندق واحد ، ولكنها تنقلب عليه في آخر المسرحية وتنضم إلى القطب المعادي الذي يتمثل في كبار القضاة والتجار وقواد الجيش . لكن عند السيد حافظ ست الملك لا تصارع أخاها بنفس الحدة التي وجدناها عند سابقيه إذ أن الصراع احتد وعنف بين الحاكم من جهة والتجار وأصحاب النفوذ ( قضاة وجيش ) من جهة ثانية ، فهو صراع أكثر انفتاحا وأكثر قوة لا يمكن أن ينتابه الضعف الذي تفرضه الأخوة بين الحاكم وأخته ، كما رأينا عند باكثير والقهواجي . ويضم هذا القطب زيادة عن الحاكم وأخته ست الملك مجموعة من بسطاء المصريين من حي شعبي هو حي امبابة ( فتحي وقسام وحمكوش وفتوش وابن الصمصامة وزيدان ) وهي شخصيات صادقة ونزيهة وبسيطة ، باختصار أنموذج للشعب المصري ولكنهم لم يكونوا مؤثرين فاعلين في الأحداث ، لم يتجرأوا على الفعل أمام هيبة الحاكم ( هذه تقاليد الشعب المصري الذي يؤمن بالمراتب ، كل واحد يعرف حدوده ) باستثناء أخته ست الملك التي كانت مهيأة للاعتراض والتحدي ، كما ضم هذا القطب العديد من العناصر النسائية ( فاقت ما وجد عند الكاتبين السابقين باكثير والقهواجي ) مثل سلمى وأم سلمى ، عزيزة التي أحبت الحاكم بعنف وحاولت تغيير نمط حياته عندما خرجت عن سلبيتها قتلها (تجرأت عليه) وسنية أخت عزيزة التي تابعت ما بدأته أختها فسيطرت على الحاكم سيطرة كبلته فترجاها أن ترحل بعيداً عنه ويعطيها كل ما تريد " خذي المال ، خذي الأمان ، خذي أي شئ يا شيطان الأنوثة والجمال ( وينهار الحاكم ) ..."(84) ، فأفلتت من قبضته ولم يقتلها كما فعل بأختها ورفضت الرحيل .
بدأ الصراع دمويا بين القطبين منذ بداية المسرحية ، فالقطبان دخلا في مواجهة استطاع الحاكم بشيء من السهولة كسب الصراع لصالحه مدفوعا بآراء ست الملك الحكيمة من خلال الرصد والمتابعة للوضع السياسي والاجتماعي عن كثب ، إذ أنها كانت تنجح حيث فشل أخوها ، فوفرت له الحماية من ارتكاب الخطأ القاتل بمتابعتها المستمرة لأعداء أخيها وخصومه رغم قوتهم . ومع ست الملك كانت هناك مجموعة من أصدقاء الحاكم المخلصين النزيهين الذين كانوا فاعلين على مستوى الدعاية الكلامية أكثر منه على مستوى العنف والسيف ، لأنهم ينشرون الأفكار التي ينادي بها الحاكم بين الناس البسطاء من خلال ممارساته ( العدل ، المساواة ، التواضع ، الحرص على نظافة القلب واليد والهندام واللسان والمدينة ) . ولكن عندما تنضم ست الملك إلى القطب المعادي للحاكم فإنها استطاعت بسرعة مذهلة أن تقلب الموازين وتعجل بنهاية الحاكم .
انضمت إلى المعسكر المعادي للحاكم بداية من الصفحة 99 حيث دخل الطرفان في مواجهة مفتوحة كان النصر فيها لست الملك لأن أخاها أراد أن يبعدها عن القرار السياسي وبالتالي عن السلطة ، وذلك من خلال اتهامها بإقامة علاقة خنائية مع قائد القبائل البربرية المغربية ابن الدواس فأمر بحراستها في القصر فأثار حفيظتها : " أنا لا أسجنك ، أنا أريحك ... "(85) ، ومنذ تلك اللحظة بدأ العد التنازلي لنهاية الحاكم عندما تزعمت ست الملك القطب المعادي للحاكم والذي كان يملك الآلة العسكرية ( ابن دواس قائد جيش كتامة ) والسلطة القضائية ( قاضي القضاة ) والمؤسسة الدينية
( من أئمة ودعاة ومفكرين وقادة وجماعات إسلامية ) والهياكل الاقتصادية المتمثلة أساسا في سلطة رأس المال . ولم تكن تنقصهم إلا الشرعية التاريخية التي كانت تملكها ست الملك فأغلقت الدورة وتوفرت الظروف الموضوعية لنهاية الحاكم الحتمية والمأساوية . وبدأ العد التنازلي وأحس به الحاكم الذي وعى جيدا اقتراب نهايته بعد أن أحس بقوة خصومه وعدم قدرة مساعديه على الوقوف في وجه المناوئين ، وهنا يذكرني الحاكم بعلي ابن أبي طالب كرم الله وجهه في صراعه مع معاوية ابن أبي سفيان ، فكانت الهزيمة للفقراء وغير المحنكين سياسيا وانتصر المعسكر الذي جمع رأس المال إلى الدهاء السياسي .
انهزم الحاكم عندما خرجت أخته ست الملك من صفه فأحس بذلك " لا شيء إحساس غريب ، شاهدت النجم المشؤوم الليلة في السماء ... "(86) لذلك يمكن أن نقول إن قطب الحاكم انهار كليا ولم يحاول الصراع بعد أن أحس بتغير المعطيات ، وأعتقد أنه يئس من النتيجة الإيجابية بحكم أن مساعديه لم تكن لهم القدرة على الوقوف في وجه معارضيه الأقوياء وكانت النهاية المحتومة .
الشخصيات :
اختلف عدد الشخصيات واختلفت جذورها بين الخيال والتاريخ ، بين الكتاب الثلاثة :
باكثير
القهواجي
حافظ
الحاكم بأمر الله (ت)
ست الملك (ت)
ابن الدواس (ت)
أم علي ( لبابة زوجة الحاكم )
أم الحاكم (ت)
ست مصر (ت)
عبد الرحيم
الغلام
مرجان
علي
نسيم
نرجس
الحاجب
حتكين
غين
شمس
الحظايا والجواري
مساعد الكاتب
عامر
سعيد
العسال
حمزة
أئمة المذاهب الأربعة
المنجمون
قائد القواد
الوزير
كاتب الدست
قاضي القضاة
صوت الغائب (شخص من بين 10)
حسن الأخرم
الدرزي
التميمي
الشرطيان (2)
أصوات
القاتل
الجميع
أحد القواد
القائد
عنبر
حبابه
الشخص

* 41 شخصية

الحاكم بأمر الله (ت)
ست الملك (ت)
ابن دواس (ت)
أرجوان ( محرف عن التاريخ )
راشدة ( زوجة الحاكم )
خيزران
جبريل الصوفي
الأحدب
المسكون
الوقاد القبطي
العبد
رئيس الممرضين
الممرض العجوز






























* 13 شخصية
الحاكم بأمر الله (ت)
ست الملك (ت)
ابن دواس (ت)
برجوان (ت)
جوهر الصقلي (ت)
المعز لدين الله (ت)
ابن سعيد (ت)
الناصري (ت)
مؤرخون (3)
ابن بطوطة (ت)
أبو الريحان (ت)
المسعودي (ت)
القضاعي (ت)
ابن إياس (ت)
ابن خلدون (ت)
العزيز بالله (ت)
الحارس
محمد بن النعمان
الحسن بن عمار
بصاص (2)
ريدان
العزيزية
الحسن
الحسين بن جوهر
الصقلي
ابن الصمصامة
حمكوشة
رجل (2)+(3)
فتحي
فتوش
قسام
الزبون
غين
شهبندر التجار










*77 شخصية

القاضي
تاجر (2)
النخاس
المنادي
نعمان
أم سلمى
سلمى
عمران
امرأة (2)
مسعود
الحلواني
جرجراني
أسرار
أرسيطانيوس
عزيزة
سنية
عليش
الخباز
الظاهر بالله
منصور
العسس (2)
العجوز
المقريزي (ت)
شمس الدين الذهبي (ت)
شاعر
الحسن بن الهيثم (ت)
ابن حسيب (ت)
النخاس
أبو الحسن
الأولاد
ست مصر
آمنة
ابن حسين
الشاب







اختلف عدد الشخصيات عند الكتاب الثلاثة حيث كانت الأقل عند البشير القهواجي ، إذ بلغت ثلاثة عشر شخصية ، ثم يأتي علي أحمد باكثير بحوالي الأربعين شخصية ، وارتفع الرقم عند السيد حافظ ليصل إلى حوالي السبعين شخصية ، ( قلت حوالي لأن الكاتبين يذكران مثلا شخص وصوت ورجال وحظايا ومؤرخان وشرطيان لذلك قلت حوالي كذا ) . وقد انقسمت هذه الشخصيات إلى ثلاثة أنواع :

1) الشخصيات التاريخية : مثل الحاكم بأمر الله وست الملك وابن الدواس الذي ورد عند باكثير وابن دواس عند السيد حافظ وابن داوس عند بشير القهواجي ( هناك اختلاف بسيط بين الكاتبين السيد حافظ وباكثير إذ أنه ورد نكرة عند السيد حافظ ومعرفا عند باكثير وأما هذا التحريف عند بشير القهواجي لا أدري ما هو سببه ، هل هو خطأ مطبعي ؟ هل هو زلة قلم ؟ على كل ذكر في كتب التاريخ بابن دواس ) والشخصية التاريخية الرابعة التي جاءت مطابقة للتاريخ عند السيد حافظ هي برجوان ، وجاءت محرفة عند القهواجي أرجوان وكانت بعيدة نوعاً ما عن الاسم الأصلي عند باكثير . أما شخصية باكثير التاريخية الرابعة فهي شخصية الدرزي الذي كان له الدور الأساسي والفاعل في ادعاء الحاكم الربوبية لأنه كان معلمه ، كما وردت عند باكثير شخصيتان بالكنية : أم علي وأم الحاكم يمكن عدهما من التاريخ .
أما السيد حافظ فقد أضاف العديد من الشخصيات التاريخية وذلك عن طريق فنية التزامن : جوهر الصقلى ، المسعودي ، ابن خلدون ، ابن بطوطة ... وقاربت العشرين شخصية عدا الأربعة الذين ذكرناهم في البداية . ويمكن أن نستنتج هنا أن السيد حافظ كان الأقرب إلى التاريخ عند استقاء الشخصيات .

2) الشخصيات شبه التاريخية : مثل الأئمة الأربعة عند السنة في مسرحية باكثير أو راشدة زوجة الحاكم بأمر الله عند القهواجي وأريسطانيوس عند السيد حافظ .

3) الشخصيات الخيالية : وهي تمثل النسبة الغالبة عند الكتاب الثلاثة فعددها أكثر من الشخصيات التاريخية فهي حوالي ستين شخصية عند السيد حافظ وحوالي ثلاثين عند باكثير وهي ثماني شخصيات عند القهواجي . وإذا أردنا أن نقوم بمقارنة بسيطة بين الشخصيات التاريخية والشخصيات الخيالية فإننا نصل إلى استنتاج أن الشخصيات الخيالية لم تكن فاعلة في الأحداث ولم تكن مؤثرة في مجرى الصراع ولم تكن قادرة على تعميق الموقف الدرامي في المسرحيات الثلاث باستثناء شخصية جبريل عند بشير القهواجي .
وسوف نحاول تحليل الشخصيات الهامة في المسرحيات الثلاث وهي شخصيات تاريخية نضيف إليها شخصية جبريل عند البشير القهواجي لأن النعت الذي جاء بعد هذه الشخصيات يحيلنا على مسألة التصوف الإسلامي (جبريل الصوفي) الذي لم يكن الحاكم بعيدا عن ممارساته منذ بداية حياته كما اختلط الفكر الشيعي بالممارسة الصوفية في العديد من محطات التاريخ الإسلامي ، بالرغم من أن علي بن أبي طالب ـ أب الشيعة ـ لم يتصوف وإنما شرع فقط مبدأ زهد الحاكم " وعلي عند المتصوفة هو الجد الأعلى وإليه يرجع نسب الصوفي … "(87)
طبعا بعد قراءة المسرحيات وجدنا شخصية الحاكم هي الشخصية الفاعلة في كل المسرحيات المذكورة سلفا وهي حاضرة باستمرار ، إما حضورا جسديا وإما حضورا بالغياب في أذهان الخصوم والأصدقاء ، المؤيدين والمعارضين فكانت الشخصية المحورية التي استقطبت الأنظار وسيطرت على الأحداث من أولها إلى آخرها .
الحاكم بأمر الله شخصية مسرحية لم يقع تحديد أبعادها الثلاثة عند الكتاب الثلاثة بدقة ووضوح وأعتقد أن أدق الأبعاد وضوحا في شخصية الحاكم والذي اتفق عليه الكتاب الثلاثة هو البعد النفسي إذ أنهم أشاروا إلى جنونه ولربما كان أكثر الكتاب إلحاحاً على هذه المسألة ، مسألة الجنون ، هو علي أحمد باكثير ، إذ أن كلمة الجنون قد فاق ذكرها العشر مرات . وكانت ست الملك آخر المقتنعين بهذا الجنون : " يعلم الناس جميعا جنونك ... " (88) ، نفس القناعة تكررت عند البشير القهواجي بأن الحاكم مجنون : " إنه مجنون سيقتلنا جميعاً . أقسم سيذبحنا ذبح التيوس إن لم نقض أمره ، إنه مجنون ... لا يمكن أن تفهم هذا الجنون يا ابن داوس ... "(89) وهذا ما وصل إليه السيد حافظ وهو أقل الكتاب الثلاثة تركيزا على هذه الناحية إذ جاء على لسان شهبندر التجار : " مخبول ... نعجن العيش بالايدين مجنون ... "(90) كما تردد هذا الاتهام على لسان امرأة وهو من ألد أعداء المرأة عند السيد حافظ فقالت عنه لأنه قتل منهن الكثيرات متفننا في نوعية القتل ( قتل خنقا في الحمام ، قتل رماية من أعلى قمة جبلية ...) فتأكدت احداهن من جنونه فقالت : " الراجل دا مجنون يا حبيبتي"(91) والتقى الكتاب الثلاثة مع التاريخ الذي أكد أعلامه على مسألة الجنون عند الحاكم بأمر الله " وكان خبيث الاعتقاد مضطرب العقل ... "(92) ، ولم يكف المؤرخين الإشارة إلى اضطراب عقله بل أوردوا على لسان أخته ست الملك حالته النفسية بصريح عبارة الجنون : " ... وقد زاد جنونه وأنا خائفة أن يثور المسلمون عليه فيقتلوه ويقتلونا معه ... "(93).
وهذا الجنون الذي بدا على الحاكم سواء عند المؤرخين أو عند رجال المسرح يمكن أن نجد له مبررات على أساس أن الرجل قد تصوف ومنطق التصوف غير منطق السنة وفكرها الارتودوكسي إذ أن المتصوفة كانوا يتعوذون من العقل الذي يقنع ومن الحجة التي تفحم فها هو أحدهم يخاطب صاحبه قائلا : " لا تخف من جنونك في هذا الوقت فإنه عالم أكمل ، والجنون من كمال العقل . فإن الإنسان إذا كمل عقله ونضج وتشبع بالعلم وكان له قلب يصحبه في صحوه وسكره لابد أن يكسر من حدة العقل ليعطي فسحة للقلب يتحرك فيها ويهيم حتى يؤدي ما عليه .. إن الإنسان إذا كان عقلا كله لا يقدر على الحركة لأن العاقل يكون دقيق الحساب شديد التحرج والتهيب فلابد له من فسحة جنون يتحرك بها ويحرك بها الأشياء من حوله ... "(94).
لقد أكد المؤرخون على أن الحاكم قد تصوف وقد بدت ممارساته الصوفية واضحة سواء من خلواته المتكررة والطويلة أو في علاقته بالنجوم ومراقبتها أو تهجداته الليلية أو لباسه للصوف وامتناعه عن ملذات الدنيا أو دخوله حالة الهذيان التي كانت تنتابه من حين إلى آخر . ووصل به تصوفه حد ادعاء الألوهية وبدت صورة شخصية الحاكم في كتب التاريخ تقارب صورة فرعون التي وردت في القرآن " والمتصوفة مع فرعون ضد موسى لرفضهم الوسائط ، أما قوله أنا ربكم الأعلى فهو سر النفس عندما تتجرد وتشرب من كاس القرب فتتحد في الحق فيتأله الإنسان ... "(95) وقد سار الحلاج والبسطامي وابن عربي وابن السبعين المغربي على هذا المسار فتراءى لنا الحاكم من أقطاب التصوف أكثر منه خليفة من خلفاء الفاطميين ، فممارساته التي تذكرها كتب التاريخ ممرسات صوفية : " فالقطب الصوفي لا يرى وجوده إلا مرآة الوجود المطلق وتحمله محدودية الحياة الأرضية للخروج من الدائرة الضيقة لهذه الحياة الأرضية على البحث عن امتداد كوني تواصل فيه الروح وجودها الدائم ، وهو في حاجة إلى روحنة حياته الأرضية للخروج من الدائرة الضيقة لهذه الحياة المحكومة بالحاجات الحسية من أكل وشرب وجنس ليصبح شيئا أعلى وأكبر ... "(96) .
حاول الحاكم في حياته أن يكون قطبا صوفيا أكثر منه حاكما سياسيا لأنه أحس بامتلاك الطاقة الروحية التي تمده بالإحساس بالتأثير في العالم وخاصة عندما وصل إلى " وحدة الوجود الصوفية التي يتأله معها الإنسان فيغدو موضوعاً للخير الأسمى والعدل المطلق."(97).
هذه النظرة إلى الوجود والكون والعالم والإنسان والألوهية التي امتاز بها أقطاب التصوف وفكرهم وممارستهم اتصف بها الحاكم إذ أنه حسب كتب التاريخ قد أقدم على ممارسات طقوسية غريبة مثل " وأقام يلبس الصوف سبع سنين وامتنع من دخول الحمام ، وأقام سنين يجلس في الشمع ليلا ونهارا ثم عن له أن يجلس في الظلمة فجلس فيها مدة ... "(98) لم تكفه هذه الممارسات الصوفية بل تجاوزها وبلغ قمتها عند ادعائه الربوبية أو الألوهية فأصبح يصدر أوامره مصدرة بعبارة ( باسم الحاكم الرحمان الرحيم ) .
وشاع الحديث في دعواه الربوبية وتقرب إليه جماعة من الجهال فكانوا إذا لقوه قالوا "السلام عليكيا واحد يا أحد يا محيي يا مميت"(99)
إن ظاهرة تصوف الحاكم بدت أكثر وضوحا عند البشير القهواجي من كتاب المسرح ، فقد صور الحاكم شخصية صوفية تكاد تلامس شخصية الحلاج في العديد من جوانبها ، فهو يقضي الليالي الطويلة متهجدا متعبدا متناسيا ملذات الحياة مستغرقا في تأملاته الميتافيزيكية مهملا التزاماته الأرضية سواء مع زوجته أو في أكله أو في مسؤولياته السياسية " نفسه تبتعد عن الأرض وفي صدره يزأر صوت مروع ... لو فهمت لخرج من وحدة التصوف المنقطع لكنك لم تمارسيه بما يمنح المتعة ... "(100)
طغى الطعم الصوفي على مسرحية القهواجي ( بيارق الله ) من بدايتها إلى نهايتها فشطحات التصوف تملأ المسرحية إذ جاء في الإرشادات الركحية في بداية المسرحية : " شبح جسيم مهيب في جلباب صوفي خشن ، الحاكم بأمر الله جالس في حالة استغراق "(101).
واصل القهواجي التأكيد على صوفية الحاكم سواء عن طريق الإرشادات المسرحية أو عن طريق الحوار إذ جاء في الصفحة الأخيرة من المسرحية : " الله حي لا يموت ، انتظروا عودته المنتقمة ، انتظروا يوم مشهده وارتفاع بيارقه ( انفجار هائل يغيب أثناءه الحاكم ) ... "(102)
أحسست خلا المسرحية أن البشير القهواجي كان يعشق هذا الجانب المتصوف لشخصية الحاكم بأمر الله ، إذ حرص طوال المسرحية على إبراز هذا الجانب دون غيره وكان الأستاذ القهواجي باعتباره شاعرا يطمح إلى نبوءته الخاصة وألوهيته الخاصة . كان يتأمل التجربة الصوفية التي خاضها الحاكم تجربة المعاناة والإحساس بالمأساة الوجودية للإنسان ذلك المخلوق الحالم بالألوهية ، والمحكوم بالحيوانية فبقي معلقا بين الاثنين .
إمعانا في الإعجاب بالجانب المتأله من شخصية الحاكم بأمر الله جعل له البشير القهواجي شخصية تابعة سماها جبريل الصوفي ، غير محددة الأبعاد فهو نبي في بعض الأحيان وهو تابع خادم أحيانا أخرى وهو ملاك في حالة ثالثة . كل ممارسات جبريل الصوفي تدل على تبعيته للحاكم ، معبرا عن إعجابه ـ حد الاندهاش ـ بشخصية الحاكم وأفعاله . ورغم الإيحاء والإشارة إلى جبريل الملاك الذي أنزل الوحي على الرسول الكريم أو كان الواسطة بين الأرض والسماء (بين محمد والله) فإن ملامحه قد تغيرت عند البشير القهواجي وكثيرا ما ذكرني بسانكوبنشا تابع دونكيشوت في رواية سرفنتاس المشهورة . عرف القهواجي شخصية جبريل الصوفي قائلا : " هو درويش شاب نذر حياته لخدمة أشقياء المجرمين … "(103). ثم يضيف البشير القهواجي بعد قليل معرفا علاقة الحاكم بجبريل الصوفي عندما يؤكد الأخير قائلا : " عبدك جبريل يا مولاي "(104) . إن شخصية جبريل هي الأقرب إلى الحاكم ، وهي الأوفى والتي اعترفت بألوهية الحاكم وسخرت نفسها لخدمته فآمنت بقضيته ودافعت عنها دفاعاً سلبياً يقارب دفاع المسيح بعيداً عن العنف اللفظي أو العنف البدني " مولانا وهل نغيب عن حضرتك لحظة أو نشرد رمشة عين … نحن قطيع التيه ، قافلة المجرمين وأبناء المختبلين . وبيننا الشقي والبائس والخاطئ والأبرص والكسيح … ضع راياتك الخمس واجمعنا تنجمع حول عرشك يا الله … "(105) . بقي جبريل الصديق الوفي للحاكم بأمر الله ، وفاء من الصعب وجوده في عالم الواقع ولكن الحاكم ـ حسب اعتقاد القهواجي ـ شخصية متصوفة تبحث في عالم الغيب والمثل ، عالم الوجود الإنساني ووضعه المأساوي المهدد باستمرار بالفناء والعدم ، فكان جبريل في هذا العالم مثاليا حد المبالغة ، حد التضخم " ووجودنا يسبح لوجودك وشكرنا يزحف على أعقاب عرشك يا مولانا … "(106) .
كانت شخصية الحاكم عند القهواجي هي الشخصية الفاعلة في الأحداث فهي التي ملأت الفضاء المكاني بهيبتها وأفعالها المتعددة الاتجاهات والأبعاد . تحركت في الفضاءين الزماني والمكاني كما شاءت لأنها حققت انتصارها على أعدائها بعد أن خرجت من السجن رغم ما أوحى به المؤلف عن حادث طعنها . لكنه أشار صراحة إلى أنها اختفت من على الركح . وبطبيعة الحال ليس اختفاء عن طريق الموت وإنما كان اختفاء عن طريق الحياة ، ولعل البشير القهواجي أراد أن يغازل الشيعة ومفهومها للإمامة والغيبة والمهدي المنتظر ، لعل الحاكم يكون إماماً آخر قد غاب وسوف يعود ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جوراً " الله حي لا يموت انتظروا عودته المنتقمة ، انتظروا يوم مشهده وارتفاع بيارقه ( انفجار هائل يغيب أثناءه الحاكم ) "(107).
إذا رجعنا إلى علي أحمد باكثير وتعرفنا على شخصية الحاكم الذي اعتبره غامضاً فأراد أن يبحث عن سره في مسرحيته ، فهو لم يضعه في إطار التصوف الإسلامي كما ذهب إلى ذلك القهواجي ، وإنما أبقاه في مسار الفكر الشيعي المتطرف ، إذ أن الحاكم عندما ادعى الألوهية كان نتيجة تأثير خارجي عن طريق مجموعة من الدروز أو غلاة الشيعة بينما صوره البشير القهواجي يصل إلى ألوهيته بمجهوده الخاص عن طريق البحث والمجاهدة والتأمل ، بينما صوره باكثير يعيش حيرة وجودية وتململا عقائديا وقلقاً فكرياً ، إذ كان يحس بأنه يبحث عن إجابات على أسئلة ، يبحث عن إيمان كإيمان العجائز ولكن لم يعثر عليه لذلك عندما صادف أول المنافقين انساق وراءه " الصلاة والسلام على مولاي أمير المؤمنين "(108) إن سماع الحاكم بأمر الله لهذه التحية من طرف زائره الذي أطلق هذه العبارة المخصصة لرسول الله وعدم إدانتها بقوة شديدة دلالة على قبولها ضمنيا ، وسوف نتأكد لاحقا من أن الحاكم بأمر الله عند باكثير ـ كما هو عند المؤرخين ـ قد تجاوز المحظورات الإسلامية في الطاعة والتسليم والإيمان . كان تمرد الحاكم واضحا عند باكثير وهو ناتج عن تململ داخلي وقلق ميتافيزيكي عاشه الحاكم منذ صغره وقد تضخم عندما وجد منظرا من غلاة الشيعة فساعده على حل مسألة الشك وجحيمه الذي كان يتخبط فيه منذ نعومة أظافره " إن الإمام الحق هو الذي تصفو نفسه حتى يلهمه الله معرفة الحق من الباطل فتنقشع له الحجب … وهذا لا يكون إلا برياضة نفسية طويلة "(109) .
قاد القلق الوجودي الحاكم بأمر الله عند باكثير إلى ممارسة رياضة روحية حتى يبلغ الإمامة التي يراها هو وليس كما رآها الشيعة عموما والفاطميون بشكل خاص ، دعني منهم ، إنهم انتحلوا الإمامة ولم يبلغوها ."(110) ، هذا حكم الحاكم على سابقيه من خلفاء الفاطميين بمن فيهم أبوه العزيز
وبدأ يسلك طريقه الخاص للوصول إلى الإمامة بمفهومه الخاص " أتراني أقترب من علم الغيب "(111) فالحاكم عند باكثير أنكر بوسائله الخاصة مفهوم أجداده للإمامة ولكنه لم يهتد بعد إلى مفهوم شخصي متكامل العناصر النظرية والطقوسية حتى أتاه العون الخارجي متمثلا في مؤامرة فارسية مجوسية على الإسلام والمسلمين : " هاأنذا قد جئت يا أخرم لأذكرك أننا ما جئنا هنا لإحياء الإسلام بل لهدمه ... "(112). قدر لهذه المؤامرة الفارسية أن تنجح ـ حسب باكثير ـ لأن الفرس القريبين من الشيعة وجدوا استعداداً شخصياً عند الحاكم بأمر الله للتأله : " نعم ، يريد التجرد من البشرية والتخلق بصفات الألوهية … "(113) . وفعلا يتأله الحاكم بمساعدة غلاة الشيعة من الفرس خاصة ، ولكنه في نهاية المطاف يقر بمحدودية الإنسان ويقر بأنه كان ضحية خديعة ومؤامرة أجنبية.
يعود بعد إقراره بخطئه إلى فكر سني وممارسة دينية إسلامية بعيدة نسبيا عن الشيعة وفكرها وطقوسها ، كأنه إعلان توبة وطلب مغفرة . وهنا يختلف علي أحمد باكثير عن البشير القهواجي ، إذ أن الحاكم عند القهواجي بقي صوفيا متألها حتى آخر مشهد من المسرحية ، بينما أعلن توبته عند باكثير متخلصا من ممارساته الشيعية الصوفية التي قادته إلى المأزق الروحي . ويعلن نوعاً من الارتماء في أحضان السنة الحنبلية ( مذهب غالبية الشعب المصري ) لأنه اعتقد في فترة من فترات حياته أنه امتلك الطاقة الروحية التي تمده بالتأثير في العالم . وعندما اكتشف أنه لن يؤثر في العالم أقر بقرب أجله المحتوم ، فكان إسلامه وتسليمه للمشيئة الإلهية السنية بكل ضعفها وخضوعها فبدا واضحا إرتماؤه في أحضان الإسلام السني بعيدا عن الفكر الصوفي وألوهيته .
وإذا تركنا باكثير جانبا وأتينا إلى السيد حافظ الذي رسم الحاكم بأمر الله أقل ميتافيزيكية من سابقيه ، باكثير والقهواجي ، وبالتالي أقل شغفا بمذاهب الصوفية وطقوسها لأنه ركز على التزامه الاجتماعي أكثر من التزامه الميتافيزيكي . وعندما ظهرت صوفية الحاكم كانت أقرب إلى المناضل الاجتماعي إذ : " عند أقطاب التصوف الاجتماعي فالمشكلة الأم هي الفقراء والجياع "(114) .
صور السيد حافظ الحاكم بأمر الله متصوفا معتدلا يعشق القاهرة التي يقضي الساعات الطويلة وهو يتأملها من فوق جبل المقطم " الأمراء ، الأدباء ، الحكماء ، الشعراء ، قاهرتي عاصمة الدنيا يا ست الملك . " (115) ، ويمكن أن نلاحظ أن الحاكم بأمر الله كان عند السيد حافظ أقرب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبقية الخلفاء الراشدين " يا مولاي فوطة وملابس متواضعة تذكرني بأوائل المسلمين ... ما نصر الإسلام إلا التواضع .. فوطة تحميني من الشمس . " (116) ، فهو زاهد في الدنيا يركب الحمار ويطوف شوارع القاهرة بدون حراس ويأكل قليلا " الخليفة دايماً صايم ، قليل الأكل والطعام .. "(117) ، كما أهمل جانب اللذة الجنسية فلم يعر المرأة اهتماما كبيرا في حياته بل كان موقفه متشنجا منها " هو ما بيحبش الستات ليه ، ماله ومالهم ، ما يروح يتجوز ... "(118) .
بدا الحاكم عند السيد حافظ مهووساً بالعدل وقد تكررت كلمة العدل في النص عديد المرات حتى خيل لي أن السيد حافظ يريد أن يضيف صفة العدل للحاكم حتى يصبح الحاكم العادل " حكمنا بينكم بالعدل ... إن مصر لا تجوع إلا إذا نام العدل فيها وضاجع التجار شرفها "(119) . وها هو الحاكم يلخص سيرته للذين حاولوا التآمر عليه قائلا : " كرسي العرش ! أنا لم أجلس يوما على كرسي العرش وأنت تعلم هذا ، أنا لا أركب الخيول المسرجة ولكني أركب الحمير لا ألبس الملابس الحريرية بالديباج ولكنني ألبس ملابس بسيطة ، لا ألبس العمامة المطرزة بالجواهر وأضع على رأسي منشفة ، لا أسير في الشوارع والحارات بين الجنود والحراس والمواكب والزينات ... لماذا تتآمر علي؟.."(120) .
تصوف الحاكم عند السيد حافظ لأن ممارساته الدينية والاجتماعية والروحية ليست بعيدة عن أقطاب التصوف لأن زهده في ملذات الحياة كان دلالة على تصوفه ولكن له فهم خاص في التصوف والتأمل والرياضة الروحية وكثرة التعبد والتهجد والاعتناء بالنجوم والابتعاد كليا عن طيبات الدنيا
" لأنه تخلى عن حظوظ النفس فلم يعد يرغب ولا يفرح بشيء ، بل إنه لا يحزن على شيء وإنما حزنه لما يرى من غلبة الشر واتساع الظلم ... "(121) .
لقد بدا الحاكم بأمر الله متصوفا متمردا عند السيد حافظ على السلطات الثلاث : سلطة الدين وسلطة الدولة وسلطة المال ، فكانت ثقافته ثقافة مروحنة خارجة عن صلابة العقيدة ومتمردة على مطالب الطبيعة لهذا كانت مواقفه العنيفة ضد الأئمة والقضاة والطامعين في السلطة من قواد الجيش خاصة ابن دواس أو التجار لأن هذا الثالوث كان يراه الحاكم حملاً ثقيلاً على ظهره وظهر الشعب المصري فأقلق وأزعج حتى أقرب المقربين إليه ، أخته ست الملك ، لأنه أراد بناء مجتمع فاضل خال من الظلم والاستغلال والأساطير والتعصب الديني والقمع السياسي . توضح تصوف الحاكم عند السيد حافظ بصفة ميتافيزيكية في آخر المسرحية عندما أراد المؤلف أن يبرر سبب قتل الحاكم : " هذا الحاكم بأمر الله قد كفر وادعى أنه الله وأنه يحيي ويميت وأن لا إله غيره ... "(122) .
لقد صور السيد حافظ شخصية الحاكم على أنه واحد من الشعب المصري البسيط الخفيف الروح الذي يرغب في بناء عالم فاضل خال من الاستغلال والجوع والقذارة والقمع والإرهاب ، لذا كان الحاكم شخصية مصرية مليئة حركة وخفة روح تفيض عدلا وتواضعا وبساطة .
رغم ما قام به الحاكم من ممارسات لا أخلاقية ـ عند السيد حافظ ـ خاصة قتل النساء قتلا جماعيا ، فقد كانت عملية القتل مبررة ، إذ حاول المؤلف أن يجد لها بعض الذرائع الأخلاقية من حيث انتشار الدعارة في المجتمع المصري وغيره من المجتمعات الإسلامية إلا أن هذا الموقف المتشنج من المرأة التي يرى فيها الفنان عائقا للإنسان الباحث عن السمو والارتفاع عن وحل الأرض وماديتها ، الباحث عن الألوهية قد وجدناه عند توفيق الحكيم من قبله . صور الكتاب الثلاثة الحاكم بأمر الله عدوا لدودا للمرأة (Mysogene ) بدون إعطاء تبرير منطقي لهذا الموقف الغريب من المرأة ووجودها إذ أن المتصوفة الذين ـ من حيث المبدأ ـ قد أثروا على الحاكم بأمر الله من خلال ممارساته الصوفية لم تصدر عنهم مثل هذه المواقف . لم يتخذ المتصوفة موقفا معاديا من المرأة
حيث كانوا يقولون : " كن على أي مذهب شئت ، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم والعلة مؤنثة وإن شئت قلت القدرة فمؤنثة أيضا ."(123)
وبالتالي يمكن أن نلتجئ إلى الافتراض بأن الحاكم فقد أباه صغيراً (11 سنة) لربما أحس بنفور من المرأة عندما سيطرت عليه أمه من ناحية وأخته ست الملك من ناحية أخرى ، فكرههما نتيجة الحصار الذي تضربانه عليه أو لربما كانت علاقة هاتين المرأتين مع الرجال علاقة خناء لم ترض الطفل صغيرا فنقم على المرأة كبيراً ، وخاصة أن كتب التاريخ قد تحدثت عن علاقات ست الملك الغرامية حتى أنكرها : " لست أعرفك أيتها المرأة . من أنت ؟ "(124) ، بينما بدأ بعلاقة تشنج مع زوجته وانتهى بعلاقة انسجام ووئام : " تعالي نبتعد عن هذا المكان .. تعالي ننجب ابنا ، ستحبلين وتمتلئين بالله مرة أخرى … تعالي أهبك لذة الأنثى وفرح الأم … "(125) .
أما بالنسبة إلى علي أحمد باكثير فقد صور الحاكم في تناقض من خلال تصرفاته مع المرأة ، إذ في لحظات الضعف يطلب الاستمتاع بالمرأة المتشيئة (المتعة) : " ابعثي لي حظاياي حتى آنس بهن جميعاً ... سبحان الذي خلقك فتنة للقلوب ... "(126) ، في لحظات ضعف يبدو الحاكم مستغرقا في لذته ومتعته الجنسية (ما أشهاك) ويصل إلى جعل المرأة ألذ ما في الدنيا ( ما لذة الدنيا لولا مغانيها ) وبسرعة ينتفض ويستعيد السيطرة على عقله " لقد أضعتن رشادي ... سأقتلكن جميعا فاخترن الميتة التي ترضينها ... "(127) ، ويحاول الحاكم أن يبرز هذا الموقف المفاجئ بقوله : " وقد نذرت لله أن أتجرد عن النساء "(128) ، يضع كل النساء في صناديق ويأمر العبيد بالتوجه بها إلى النيل لإلقائهن هناك " ثقل هذه الصناديق بالحديد ثم ألقها في النيل في موضع خال لا يراك به أحد"(129) .
كان بشير القهواجي قد صور الحاكم في علاقته بالمرأة أكثر اعتدالا إذ أنه كان مرتبطا أساساً بأخته ست الملك وزوجته راشدة . بدأت المسرحية والحاكم في وئام مع أخته وعشق وغزل بها حتى يكاد يلامس حدود المحظور أي يقارب الدخول في المحرمات ( I , inceste ) .
إذا كان الحاكم عند علي أحمد باكثير قد ضعف حينا أمام سحر المرأة وإغرائها واستدرك فيما بعد ، فإن السيد حافظ لم يخرج عن هذا الإطار منذ البداية في علاقة تتراوح بين الضعف والقوة أمام المرأة رغم بدايته الخاضعة لمشيئة أخته ست الملك " ست الملك ، أختي الكبيرة ، العزيزة ... ماذا تقترحين علي يا أختي ؟ ماذا أفعل ؟ … "(130) فقد كان احترامه لأمه كبيرا ، الأم التي اقتصرت على دورها الأمومي ولم تتخطاه إلى السياسة كما فعلت ست الملك .
أما موقف الحاكم من المرأة غير الأم والأخت فقد تبلور عندما لاحظ "دلاعة" وميوعة النساء في شوارع القاهرة واتخاذ الحمام مكانا للعهر والفساد " النظافة من الإيمان ، والدلع والمياعة والخلاعة والوساخة من الشيطان … وأي حمام فيه خلاعة يندفن بجداره … في الحال ابنوا لي جدارا على الحمام مش عايز ولا واحدة تخرج ولا واحد يخرج من هذا الحمام … "(131) . أصدر الحاكم عدة أوامر وقرارات تمنع النساء من التجول في الشوارع والحارات إلا تحت شروط حتى جعل النساء تتساءل " هو ماله ومال النسوان ، ماله ومال النسوان الحاكم بأمر الله ... "(132) ، ولكن عندما مر بلحظات ضعف انهار أمام المرأة وإغرائها وخضع لأنوثتها الجبارة عندها " بنى لها قصرا يقابلها فيه … بدأ يحبها للأسف وبيقعد معها بالثلث ساعات … "(133) ، وأثناء لحظات الضعف هذه يظهر الوباء ويتفشى في القاهرة ( أوديب ملكا ) يتدارك الحاكم قواه ويتهم المرأة بأنها السبب في المصيبة التي حلت بالشعب المصري " يا عزيزة أنت شيطان الجمال والأنوثة … أنت سبب البلاء .. لا يأتي البلاء إلى بلد إلا من الفساد .. أنت دسيسة الشيطان يا ريدان اقبضوا على كل هؤلاء النسوة وألقوا بهن من فوق الجبل وهاجموا بيوت البغاء وطهروا البلد ... "(134) ، قتل كثيرا من النساء لأنه أحس أن فيهن فتنة فأراد إزاحتها عله يريح ويستريح " أيوة قتلتها مع عشرين ألف جارية ومغنية وبغية إنها كانت فتنة بجمالها وصوتها … "(135) . وآخر صرخة ضد المرأة يلقيها الحاكم في وجه أخته التي كان يناديها بسيدة البيت الفاطمي وحكيمة العرش الفاطمي ولكنه في النهاية ينقض عليها غاضبا وكأنها جارية من جواريه بعد أن كانت عقله المدبر " ست الملك لا تتدخلي فيما لا يعنيك ، لك أمور القصر والطعام والحريم ، اخرجي من شؤون السياسة إلى شؤون المطبخ فأنت في زمن الحاكم بأمر الله . "(136) .
لقد صور الكتاب الثلاثة شخصية الحاكم شخصية قلقة وجوديا ، مارس العنف والتقتيل رغم تظاهره بالتصوف ، قتل العلماء والنساء والتجار والقواد ، بل مارس القتل فقط للتلذذ بالدم عند باكثير . إنه شخصية غريبة الأطوار ، تعشق الحياة على بساطتها عند السيد حافظ وتأملاتها عند البشير القهواجي وسلطتها عند علي أحمد باكثير ولكنه في نفس الوقت عشق الموت فأقدم على العنف والتقتيل لأنه ـ على ما أعتقد ـ بحكم تصوفه لم ير فرقا بين الموت والحياة ولا نبالغ إذا قلنا أنه لم يرهب الموت عندما واجه مصيره المحتوم ، واجهه بشجاعة نادرة فاستوت عنده الحياة بالموت والموت بالحياة " لأن التفكير من خلال الأضداد هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الجمع بين الوجود المطلق والوجود النسبي ويسمح بسريان المطلق في النسبي فتكون الموجودات هي عينه التي يتجلى بها وهذا هو الكلام الذي تعقل مفرداته ولا تعقل مركباته … "(137) .
كان تصوف الحاكم سببا من أسباب قلقه الوجودي أو علة لهذا القلق ولربما كان نتيجة توصل إليها ، هذا ما حاول الكتاب الثلاثة تبيانه ، لكن كل واحد على طريقته الخاصة . وإذا كان السيد حافظ قد جعل تصوف الحاكم تصوفا أرضيا باعتباره عاشقا للقاهرة ومتصوفا في محرابها ، فهو لا يكاد يزيغ بصره عنها إلا ليقع عليها من جديد " سأذهب وأصعد إلى سور القلعة لأشاهد معشوقتي القاهرة من هنا ... "(138) ، حتى نرى أن القاهرة قد عوضته عن المرأة وألغتها من حياته : " لا تأخذي روحي عندك ، أنا محب وعاشق للقاهرة … "(139) . وأما لحظات المتعة الجنسية التي قضاها الحاكم مع المرأة فهي قليلة عند الكتاب الثلاثة ، إذ استعاض عنها بحبه الإلهي عند القهواجي ، وبنرجسيته المتألهة عند باكثير ، وعشق القاهرة عند السيد حافظ الذي هو نفسه عشق القاهرة عشقا لا حدود له . وأعتقد أن الكتاب الثلاثة كل واحد منهم رأى نفسه الحاكم بطريقة أو بأخرى ، فبشير القهواجي يرى نفسه حاكما متصوفا في محراب الشعر بمدينة القيروان ، وعلي أحمد باكثير رأى نفسه حاكما ، إله الشعر نفسه ، وأما السيد حافظ رأى نفسه حاكماً عاشق القاهرة المتبتل الذي لا يرضى بغيرها بديلا رغم أصوله الاسكندرانية المغاربية .
أما الفضاء الذي تحركت فيه الشخصيات فإنه اختلف وتنوع حسب الشخصيات وحسب وظيفة وموقع كل شخصية ، وسوف نركز على شخصية الحاكم وشخصية ست الملك باعتبارهما الشخصيتان الفاعلتان في المسرحية أكثر من غيرهما فهما البطل والبطل المضاد .
تحركت شخصية الحاكم في عدة فضاءات حسب النصوص الثلاثة وستكون البداية بعلي أحمد باكثير حيث أن الفضاءات التي جعل الحاكم يتحرك فيها كانت في جلها فضاءات مغلقة تبدأ بالقصر بدهاليزه وغرفه ( غرفة في القصر الشرقي ) وشرفاته ( ينظر من الشرفة إلى الميدان ص 30 ) وتتغير القاعات حسب المجالس ( لهو أو فصل القضايا ص 50 ) وعندما يخرج من القصر يغادره ليلا في اتجاه بيت مستشاره الدرزي . انفتح الفضاء بعد القصر وتمثل في المسافة الفاصلة بين القصر وبيت الدرزي ولكنه انفتاح جزئي نظرا لأن الرؤية ليلا شبه معدومة والفضاء يحدده البصر أساسا ، وبعد هذا الانفتاح الجزئي دخل في فضاء أكثر انغلاقا (Exigu ) وعاد إلى الفضاء المفتوح النسبي وهو طريق القصر ، ثم سرعان ما يعود إلى الفضاء المغلق ، أي القصر ( في قاعة الذهب نفس المنظر الثاني ص 97 )
ولا يغادر الحاكم هذا الفضاء المغلق (القصر) إلا عندما يتوجه إلى جبل المقطم كأنه ضرب موعداً مع الموت .
وفي النهاية يمكن أن نلخص تحرك شخصية الحاكم في فضائها الباكثيري كما يلي :
مغلق مغلق مفتوح جزئيا مغلق بأكثر حدة مفتوح جزئيا مغلق
انفتاح نهائي على الموت ، فكأن هذه الشخصية لم تتحرر من اختناقها إلا مع الموت وبالتالي كانت حركتها الأساسية ضمن الفضاء المغلق تعبيرا عن معاناتها وعندما أرادت أن تتحرر ماتت وكأن الموت انفتاح على المطلق .
أما الفضاء الذي تحركت فيه شخصية الحاكم عند البشير القهواجي فنجده أكثر انغلاقا منه لدى باكثير بالرغم من أن بداية حركة الحاكم عند القهواجي كانت في فضاء مغلق دون أن يعبر عنه الكاتب تعبيرا مباشرا وإنما يستشف من خلال رؤيا الافتتاح التي تبدأ في فضاء مغلق غير محدد المعالم ( تدخل ست الملك ككائن حلمي أخضر بيدها تفاحة ، ص 11 ) وتبقى شخصية الحاكم ضمن الفضاء المغلق بالرغم من انتقاله من قصره إلى قصر أخته دون أن نعرف كيف تم التنقل بين الفضاءين وما هي المسافة الفاصلة بينهما ( صوت باب يفتح بعنف ثم يدخل الحاكم بأمر الله ، ص 22 ) ثم ينتقل الحاكم إلى فضاء أكثر ضيقا وهو مارستان الأمراض العقلية ، ويزيده ضيقا القيد الذي كبل الحاكم ( في فضاء واسع قذر ستة رجال ، خمسة منهم مقيدون ، ص 31 ) ثم يضيف الكاتب تحديدا آخر للفضاء ( ما هذا الاصطبل القذر ... جناح مجانين المجرمين ... ص 38 ) ولا يحاول الحاكم أن يخرج من هذا الفضاء السجني بمجهوده الخاص ، إذ يأتيه الدعم من الخارج ، من زوجته راشدة ( انزع الأغلال عن مولاك أيها الخادم [آمرة] ، ص 45 ) . وبعد أن فكت راشدة أغلال الحاكم فخرج إلى فضاء مفتوح ( جبل المقطم ، ص 49 ) وتختفي شخصية الحاكم ضمن هذا الفضاء المفتوح على المطلق بسبب صوفيته . وإذا أردنا أن نلخص الفضاء الذي تحركت فيه شخصية الحاكم عند القهواجي نجدها قد بدأت في فضاء مغلق مغلق أكثر انغلاقا
ثم فضاء مفتوح نهائيا وهو الفضاء الذي حقق فيه الحاكم حريته واختفاءه وليس نهايته ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) .
وإذا تركنا البشير القهواجي وحاولنا تتبع الفضاءات التي تحرك فيها الحاكم بأمر الله عند السيد حافظ نجدها أكثر انفتاحا ، فصوره محبا للهواء الطلق يكره الدهاليز ، فبدا وكأنه يختنق في الفضاءات المغلقة . كره الحاكم منذ صغره أن يطيل المقام في الفضاءات المغلقة ( سأذهب وأصعد إلى سور القلعة لأشاهد معشوقتي القاهرة ... ص 11 ) وتأتى هذا الشعور عند الحاكم لرغبة شخصية منه وبتشجيع من أخته ( واترك القصر ؟ مؤقتا ثم عد إليه وأنت أكثر قوة … استمع إلى الأدباء والشعراء والكتاب وعش مع الحكماء فهم عقل الأمة ) . تخشى شخصية الحاكم الانغلاق وزادتها نصيحة ست الملك إيمانا بأن الفضاء المغلق يهدد حياته نتيجة المؤامرات والدسائس فقرر أن يخرج إلى الناس ويحتمي بهم في الأحياء الشعبية لأنه مهد لهذه الحماية وهذا الأمان عن طريق بعض القرارات العادلة . ( لي صديق شواء ، وصديق زبال في امبابة مررت عليهما للسلام دعواني للعشاء … تعالي معي لنقضي الليل معهما ) أحس الحاكم بالأمان وسط حرارة ودفء الحياة الشعبية ، وحتى عندما عرض عليه أصدقاؤه أن يذهبوا معه إلى قصره ليسهروا هناك رفض العودة إلى الفضاء المغلق قائلا ( لا أنا عايز أجي لكم هنا واقعد هنا في امبابة وسط الناس … ص 27 ) بل ذهب إلى أكثر من ذلك بأن جعله مكان عمله ، في هذا الحي الشعبي حيث أقام ديوان المظالم ( نفتح في هذا الدكان ديوان المظالم نسمع صوت الناس ، ص 27 ) وبالتالي أصبح لا يعود إلى القصر إلا لينام ، أي عندما تتوقف حركته . ولم يدخل الفضاء المغلق لغير النوم إلا مؤقتا عندما يريد أن يتشاور مع أخته ست الملك ، أو يريد حضورها لتشهد بعض النقاشات ( يدخل الحاكم … على ست الملك ، ص 49 ) أو ( اخرج الآن موعدنا غدا بعد صلاة الظهر … ص 55 ) .
إن تحرك الحاكم في الفضاء المفتوح أثار استغراب الناس ( السلطان والأمير مكانهم في القصر الكبير ، ص 62 ) وباعتباره أصبح يعيش في فضاء مدينة القاهرة الشاسع المفتوح ، أصبح يحرص على نظافة هذا الفضاء كقصره تماماً . فقد حاول إزالة كل ما له علاقة بتوسيخ القاهرة ( الكلاب السائبة ، القطط ، الفئران ) بل منع حتى التبول في الشوارع ( وسخت القاهرة ... قاهرتي الجميلة … ص 63 ) .
وبعد أن حرص على نظافة القاهرة حرص على إنارتها فأحبها وعشقها فلم يرد أن تغيب عن بصره لحظة فهجر القصر وطاب له العيش في الأزقة والحارات . حاول الحاكم أن يغادر هذا الفضاء المفتوح إلى فضاء أكثر حميمية مع امرأة عشقها فضعف أمامها فدخل معها بيتها ليمارس حميميته الرجالية مع امرأة لعوب أتقنت الغناء والرقص فجمعت ما يضعف أعتى الرجال ، فكان الجمال واغراؤه والغناء وتأثيره والإيقاع وتخديره فوجد نفسه منقادا من دون أن يقاوم إلى فضاء مغلق فدخله مؤقتا ( بنى لها قصرا يقابلها فيه ... ص 77 ) . سرعانما وجد الحاكم عذرا للخروج من المطب الذي وقع فيه وهو ظهور الوباء وانتشاره في القاهرة ، فيخرج الحاكم من فضائه المغلق مذعورا مصدوما ويخرج إلى الفضاء الأكثر انفتاحاً وهو جبل المقطم محاولا الاقتراب من الله . وذلك من خلال الدعاء إلى الله لتخفيف المصيبة ( ارحم شعبي من الوباء والمرض ... ص 79 ) .
وعندما يتدارك الحاكم أمره يصب جام غضبه على التي أدخلته الفضاء المغلق بسحرها فأسكرته وجعلته يفقد وعيه ( يا عزيزة أنت شيطان الجمال والأنوثة ... ص 80 ) وبعد أن يدينها يقرر قتلها لأنه لم يغفر لها ذنب إدخاله إلى فضائها المغلق : ( إلق بها يا ريدان هي والبنات البغايا من فوق الجبل ... ص 81 ) .


ويعود الحاكم إلى فضائه المفتوح في حي امبابة الشعبي حيث الأمان والطمأنينة . ثم يقرر الدخول إلى الفضاء المغلق في القصر مؤقتا حيث يجد أخته ست الملك في نقاش مع ابن دواس (الحاكم ... ص 95) وها هو الحاكم يختصر كل محبته للفضاءات المفتوحة وكرهه للانغلاق والانحباس ( القاهرة تسلب روحي أمشي فيها كل يوم عشرين ساعة وأنام أربع ساعات ... ص 106) ثم يدخل الحاكم قصره أي الفضاء المغلق فيقضي بعض اللحظات مع عائلته وكأنه يودعهم
( يتغير الديكور لقصر الحاكم ... ص 113) وبسرعة يحس الحاكم بضيق التنفس في الفضاءات المغلقة ورغم ( الإحساس الغريب .. والنجم المشؤوم ... ) ورغم نصيحة أمه بعدم الخروج إلا أنه يصر على الخروج ( لا أستطيع ... صدري يضيق لا بد من الخروج ... ص 114) . وفعلا يخرج ليتنفس في فضاء مفتوح حيث ينتهي ويسير بمفرده في حارة برجوان ، ص 114) .
وإذا حاولنا أن نلخص تحركات شخصية الحاكم في الفضاء عند السيد حافظ نجدها بدأت من فضاء مغلق مؤقت فضاء مفتوح فضاء مغلق مؤقت فضاء مفتوح
فضاء مغلق مؤقت (عائلي) فضاء مفتوح (نهايته) فضاء مغلق (القبر) .
وإذا أردنا أن نحوصل ، نقول أن شخصية الحاكم بدأت عند الكتاب الثلاثة من فضاء مغلق وحققت كمالها في فضاء مفتوح وانتهت بالموت إلى فضاء مغلق عند باكثير وحافظ (القبر) وإلى فضاء أكثر انفتاحا وأكثر رحابة ( الارتفاع إلى السماء ) عند القهواجي .
رأينا شخصية الحاكم ، هذه الشخصية المحورية في المسرحيات الثلاث تنتقل بين الفضاءين المفتوح والمغلق وإن كانت تمارس عنفها وتقتيلها في الفضاءات المفتوحة أكثر منها في الفضاءات المغلقة لأنها أحست بالقوة مع الانفتاح ، ولربما نتجت هذه القوة عن الشرعية الدينية في شمولها واطلاقها والتي تدعم هذه الشخصية ( خليفة المسلمين ومن نسل الرسول ) أضف إلى ذلك طموحها هي نفسها لبلوغ مرتبة الألوهية فتصل إلى الحرية المطلقة بأن تفعل ما تريد كما يتحكم الإله في مصائر عباده الضعفاء فهو لا يسأل عن أفعاله . أما الفضاء المغلق فكان بالنسبة إليه فضاء الدسائس والمؤامرات والجدل والاتهام والضعف الإنساني ، فالقصر كان مقر الإنسانية بمحدوديتها وضيقها وتناقضاتها وسجنها ، أما جبل المقطم أو الحارات أو الشوارع فكانت مصدرا للقوة وأضحت موضعا للتأله وبالتالي مصدر الجبروت والطغيان .
إن الكتاب الثلاثة قد تصرفوا في التاريخ وابتعدوا عنه في تصوير الكثير من جوانب هذه الشخصية وإن كان علي أحمد باكثير أشد قربا من المصادر التاريخية ، فإن السيد حافظ كان أكثر بعدا عنها من ناحية الممارسات الاجتماعية ( لأنه صوره كأي مصري متوسط في لباسه وتنقلاته وأكله وعلاقاته الاجتماعية من بينها علاقته بالمرأة ) والسيد حافظ كان مسكونا بالجانب الاجتماعي لشخصية الحاكم بأمر الله عكس البشير القهواجي الذي كان مسكونا بالجانب الروحي مما جعله
يصوره من الناحية الميتافيزيكية بعيدا جدا عن التاريخ ، فجاء مزيجا من المسيحية ( القيد أو الصلب في السجن والاختفاء في نهاية المسرحية ) والإسلام ( من خلال صورة جبريل الملاك الطاهر) إذ استطاع البشير القهواجي أن يغير من وظيفة جبريل وملامحه الإسلامية الملائكية إلى ملامح إنسانية فانعكس ذلك على شخصية الحاكم التي جاءت هي أيضا طليقة من قيود الأديان فلم يكبلها بالمحرمات والممنوعات فابتعدت عن الشخصية التي صورها المؤرخون ، ولكنها كانت منسجمة مع الفكر الصوفي في أجل ممارساته : " إياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فكن في نفسك هيولي لصور المعتقدات كلها ... "(140) .
إن وحدة الأديان كانت من صميم العقيدة الصوفية لأن ابن عربي كان ينفي فكرة العقيدة المطلقة ، الصواب إن الله ليس له دين بعينه فكل الأديان إلى الله .
أما الشخصية الثانية التي ننوي الحديث عنها هي شخصية ست الملك التي تشترك مع شخصية الحاكم في الأبوة أي الانتساب إلى البيت الفاطمي باعتباره العائلة المالكة (سياسيا) وأما الاختلافات معه فكثيرة ومتعددة .
1) إنها امرأة وهو رجل ، من الناحية المنطقية هو الأقوى وهي الأضعف (سلطة الرجل) .
2) أمه مسلمة وهي من أم مسيحية وبالتالي يمكن أن نخمن أن كل واحد منهما ينتسب إلى دين أمه وهذه الناحية بدت واضحة عند السيد حافظ (بالتصريح) وعند القهواجي (بالتلميح) وهذا ليس غريبا فكثيرا ما لاحظناه في الزواج المختلط ( mariage mixte ) في العصر الحديث .
3) بقدر ما كانت ست الملك واقعية ( Realiste ) بلغت الأرضية ( Terre a rerre ) في الكثير من الممارسات ، بقدر ما كان الحاكم شخصية مثالية في كل قناعاتها . حاولت ست الملك ـ في العديد من المرات ـ إنزال أخيها من عالمه المثالي إلى الواقع اليومي المعيش وكان يرفض في كل مرة مغترا بآرائه الميتافيزيكية المحتقرة للواقع وأوحاله ودسائسه ، فأعجزها رغم منطقيتها ورؤيتها السياسية الواضحة وتمرسها بشؤون السياسة والحكم .
4) كانت شخصية الحاكم ذاهلة مستغرقة متأملة وعندما تثور تنتقل إلى النقيض فتمارس العنف في أقوى مظاهره ( قتل النساء والأطفال والعلماء والشيوخ وذوي القربى ... حتى الحيوانات ) فكانت هذه الشخصية قادرة على الانتقال من النقيض إلى النقيض ولكن شخصية ست الملك كانت متزنة تسير على وتيرة واحدة بوعي ودراية وتأن ومتابعة دقيقة لسير الأحداث وتطورها حيث أنها تظهر في المكان المناسب وفي الوقت المناسب فكانت ممسكة بخيوط كل الأحداث التي تقع في القصر وخارجه .
5) هي ترهبت لأنها ضحت بنفسها في سبيل تربية أخيها فلم تتزوج وبقيت عانساً وبالتالي لم تعش حياة جنسية مثلما عاشها أخوها ولو كانت مضطربة فبقيت عذراء الفاطميين ( تأثير المسيحية ) فبالتالي لم تمر بلحظات الضعف التي يمكن أن تمر بها المرأة العادية في العلاقة مع الرجل .
6) كانت أكبر منه سنا وبالتالي أكثر منه تجربة وحنكة سياسية ، تدربت على يد والدها العزيز فعرفت أبجديات السياسة لأنها قضت معه فترة لا بأس بها من حياتها بينما كان أخوها صغيرا عندما توفى والده .
7) كانت مستقرة في قصرها أي في فضائها المغلق الذي تخندقت فيه وتحصنت فلم تغادره ، بينما كان الحاكم يتنقل باستمرار ، فهو لا يعرف الاستقرار .
قضت ست الملك حياتها في فضائها المغلق لأنها كانت تعرف أنه مصدر قوتها فإذا غادرته انكشفت أمام الناس ( لا تملك الشرعية الدينية أو الاجتماعية باعتبارها امرأة ) فتمترست في فضائها المغلق وبثت عيونها في كل مكان لأنها فهمت لعبة السياسة وفهمت قوانينها فأتقنت أدواتها بكل الوسائل ، طورا ترغيبا وطورا ترهيبا ، والترغيب إغراء أموال أو إغراء جنسي ( علاقتها بابن دواس ) . وبهذه الطريقة استطاعت أن تسيطر على الآلات الثلاث للسلطة : الآلة العسكرية (ابن دواس) والآلة القضائية (قاضي القضاة) والآلة الاقتصادية (التجار) فخرجت منتصرة من معركتها التي حاولت بكل قوتها تجنبها وتفاديها ، ولكنها فرضت عليها فرضا عندما أحست بالخطر يتهددها في حياتها الشخصية . استطاعت ست الملك أن تكون شخصية فاعلة في الأحداث ، حية ، ديناميكية، واقعية تتابع وتراقب وتضرب في الوقت المناسب . كل ذلك وهي لم تغادر فضاءها المغلق الذي تحصنت فيه ، أصلها ثابت فيه فأعطاها القوة والقدرة على الفعل بينما كان هذا الفضاء عامل إعاقة ومصدر قلق ومنبت دسائس بالنسبة إلى أخيها . لم يكن الفضاء المغلق بالنسبة إلى ست الملك مصدر قلق بل كان بر أمان وقلعة تخندقت فيها لتنقض على أعدائها في الوقت المناسب وعلى أخيها بالذات عندما لاحظت أنه تجاوز كل الخطوط الحمراء التي حددتها له مسبقا فما كان منها إلا أن أعلنت نهايته المحتومة .
هل تطابقت نظرة كتابنا المسرحيين إلى ست الملك مع كتب التاريخ ؟ . منذ الوهلة الأولى نقول إن الكتاب الثلاثة قد ابتعدوا عن الصورة التاريخية لهذه المرأة الحديدية التي تقرر قتل أخيها ، ولكنه ابتعاد نسبي خاصة عند باكثير الذي ظل الأقرب إلى التاريخ رغم بعض الإضافات التي رآها تثري هذه الشخصية أو تعمق الموقف الدرامي ، خاصة في الخلاف مع أخيها عندما اتهمها بإقامة علاقة غير شرعية مع أحد الرجال وقرر فحصها "جينوكولوجيا" فأوصلها إلى قمة الانفعال الناتج عن الإحساس بالإهانة . أما بالنسبة إلى السيد حافظ الذي عبر عن تحرره من التاريخ منذ البداية لأنه أراد أن يعارض " الرواية التاريخية " بدت ست الملك عنده زعيمة مصرية قريبة إلى شجــرة الدر
وأرمانوسة المصرية وكليوباترة ، فكانت من فصيلة النساء اللواتي ولعن بالسياسة وتمرسن بالسلطة وحذقن لعبتها فصورها سيدة البيت الفاطمي الفعلية ولم تبق للحاكم إلا ظواهر الأمور ، أما السرائر فهي من اختصاصها ، وعندما أراد الحاكم أن يحدد لها صلاحياتها ويعيدها إلى قطيع الحريم " ست الملك لا تتدخلي فيما لا يعنيك ، لك أمور القصر والطعام والحريم ، اخرجي من شؤون السياسة إلى شؤون المطبخ … "(141) ، ثارت ثائرتها فوظفت كل أسلحتها المسموحة والمحظورة التقليدية والمستحدثة لتنتصر على أخيها ، وفعلاً تم لها ذلك .
كانت ست الملك شخصية متطورة إذ أنها كانت في البداية مناصرة لأخيها قاسية على أعدائه متتبعة حركاتهم وسكناتهم بكل الدقائق والتفاصيل ، تحلل وتستنتج لتصل في نهاية مسرحية السيد حافظ إلى أن تصبح البطلة الفعلية للمسرحية .
أما بشير القهواجي فكان حالة وسطى بين باكثير وحافظ بحيث يستطيع القارئ أن يلاحظ أنه قد ابتعد أيضا عن التاريخ في بداية المسرحية وفي نهايتها فيما يخص تصويره لشخصية ست الملك ، هذه الشخصية ذات الوجه المقسوم إلى نصفين ، نصف ملاك ونصف شيطان : " تقدم له التفاحة وتركع عند قدميه ... وجه ست الملك مركب من نصف جميل ونصف مشوه ... "(142) هنا إشارة من القهواجي إلى الخطيئة الأولى ، خطيئة آدم وحواء عن طريق التفاحة التي تمدها ست الملك إلى أخيها . بالتأكيد إن ست الملك لم تكن تتصدر الأحداث ولكنها تصنعها خفية ، إذ أنها كانت فاعلة فيها بشكل أساسي وذلك عن طريق كل الحيل الممكنة ، ها هي تعترف بها صراحة " قبلتك في مجلسي خديعة يا أرجوان ... "(143) .
وها هي شخصية نسائية أخرى وهي زوجة الحاكم ، فهمت ست الملك فهما جيدا فصدحت لها بالحقيقة في وجهها وبدون مجاملة : " أنت قوية شريرة لكنني لا أخافك ... "(144) . أما الناحية الثانية التي شدت انتباهي عند البشير القهواجي في تصويره لست الملك هي أني أحسست وكأن علاقة محرمة كانت تربط الحاكم بأخته ست الملك نشتم من خلالها عقدة أوديب ( باعتبار ست الملك هي التي ربت الحاكم ) أي تعلق الحاكم بأخته تعلقا جنسيا " بعد كل لقاء معها كنت أصلي باكيا : إلهي لماذا نحتنا في طبيعة الجسد المشتهي ؟ لماذا وسمتنا بالغريزة المهلكة ؟ إلهي إذا كانت الخطيئة في أصل الوجود لماذا غللتنا بحبال الحياة ؟ … "(145) .
وتعددت الإشارات في النص إلى هذه العلاقة الغريبة مثل ما نلاحظه في الصفحات 21 و22و27 وغيرها .. كانت ست الملك واعية بهذه العلاقة ومدركة لأبعادها وكأنها أرادت أن تدعمها حتى تتمكن من خلالها من السيطرة على أخيها قلبا وعقلا .
وكانت هذه العلاقة الغريبة سلاحاً من الأسلحة التي استعملتها ست الملك لإحكام سيطرتها على دواليب الدولة وأقوى شخصية فيها وهو الحاكم بأمر الله . لقد كانت "مكيافلية" حيث تيقنت من أن الغاية تبرر الوسيلة .
وجدنا أنفسنا أمام ست الملك ، هذه الشخصية التي كانت في غاية البراغماتية والحيوية والقدرة على صنع الأحداث وتوجيهها الوجهة التي تريدها فكانت رمز الشخصية النامية والمتطورة رغم أن نهايتها كانت مأساوية عند البشير القهواجي وهذه الناحية الثالثة التي خالف فيها مؤلفنا المؤرخين .
تحركت شخصية ست الملك ـ كما صورها القهواجي ـ في فضاءات متعددة حيث نجدها في البداية في الفضاء المغلق (قصرها) وهي قوية كأعتى ما يكون وعندما خرجت منه مؤقتا كشفت نفسها حيث ابتعدت عن خندقها وانفتح الفضاء مؤقتا (مسافة الطريق) ودخلت فضاء المارستان المغلق والمتعفن وغادرته عائدة إلى قصرها فانكشفت نقاط ضعفها في هذا الفضاء المفتوح مؤقتا ، كان أعداؤها يتربصون بها ليقلضوا عليها ويقع نقلها (قسرا) إلى فضاء آخر مفتوح (جبل المقطم) ولكنها كانت مغلولة مقيدة مهانة ، حيث كانت نهايتها .
صور كل الكتاب المسرحيين ست الملك قوية وهي خافية وعندما ظهرت إلى العيان ضعفت وكأن قوة المرأة ينبغي ألا تخرج للعيان فإذا تكشفت غارت قواها لأنها لا تملك الشرعية الاجتماعية والتاريخية والدينية للخروج سافرة أمام المجتمع الرجالي والنادرات هن اللواتي تحدين هذا المجتمع عبر التاريخ .
لقد كان مصدر قوة ست الملك في ألا تكون في الصف الأمامي كأي امرأة عربية إسلامية ينبغي عليها أن تكون وراء الرجل حتى تتستر وتؤثر ، ألم يقولوا إن وراء كل رجل عظيم امرأة معترفين بقوة تأثيرها على الرجل ولكن ينبغي أن تكون وراءه .
استطاعت هاتان الشخصيتان الحاكم بأمر الله وست الملك أن تتعاملا مع الفضاء حسب جنسهما ، إذ أن شخصية الحاكم قد نجحت في فضاءاتها المفتوحة التي فشلت فيها ست الملك ، ونجحت ست الملك في فضاءاتها المغلقة حيث فشل الحاكم ، فبدت علاقتهما بالفضاء علاقة اجتماعية نفسية (رجل وامرأة أو ذكر وأنثى ) .
كانت شخصية الحاكم شخصية عنترية تستعرض قوتها أينما كانت بينما جاءت شخصية ست الملك شخصية امرأة عربية إسلامية مؤثرة في الأحداث دون أن تحتل الواجهة ، كانت ست الملك الشخصية اللغز الكتومة التي لا تعبرعن عواطفها وانفعالاتها واحساساتها (un personnage tres reseve) وكأنها أغلقت قلبها على عواطفها جميعها فلم تبح بأي شيء بينما باح الحاكم بكل شيء
فكانت الغلبة والانتصار لمن داس على العواطف وهي ست الملك . إن صراع الحاكم مع ست الملك كان صراعاً بين الروح والمادة ، كان صراعاً بين المرأة والرجل ، كان صراعاً بين عناصر الطبيعة ، لقد كان صراعاً على السلطة .
اللغة والأسلوب :
رغم الاشتراك في الموضوع المعالج وهو الحاكم بأمر الله فإن الكتاب الثلاثة قد اختلفوا في لغة المعالجة وإن كانت اللغة العربية الفصحى قد سيطرت عند باكثير والقهواجي فإن السيد حافظ قد مزج اللغة العربية باللهجة العامية المصرية ، فأحسست كأنه قريب جدا من بيرم التونسي في لغته وأسلوبه ولا غرابة فالإثنان ينتميان إلى الاسكندرية ونهلا من نفس المنبع : حارات الاسكندرية وشوارعها وأزقتها وأناسها البسطاء الذين يتمتعون بملذات الحياة ويأخذونها على هناتها وعلاتها ، فجاءت لغة معبرة عن فضاء زماني يمتد من قاهرة المعز لدين الله الفاطمي إلى اسكندرية التسعينات دون انقطاع ودون هزات أو نتوءات فكانت لغة اليومي والمعيش الممزوجة بالفكاهة والبساطة والشاعرية في الكثير من المناسبات خاصة عندما يثير السيد حافظ علاقة الحاكم بالمرأة " هي بنت عشقت الصقور والطيور والنجوم في الفضا ... "(146) أو عندما يصرخ الحاكم متألما " أنت شيطان الجمال والأنوثة "(147) .
وتبلغ الشاعرية أوجها من خلال حوار الحاكم مع سنية في الصفحات 90و91و92 حيث نلاحظ رقة الحاكم لم نعهدها من قبل خاصة عندما بدا الضعف الإنساني جليا في حواراته مع امرأة عشقها وأحبها فأحس معها بضعف كان يخفيه وراء البطش والقتل وسفك دماء الآدميين نساء ورجالا وحتى الحيوانات كالكلاب والقطط والفئران .
عبر السيد حافظ عن موضوع تاريخي بلغة اليومي بلهجة مصرية فيها من الحلاوة وخفة الروح والبساطة ، فخالف أغلب الكتاب العرب الذين يفرضون اللغة العربية المقدسة عندما يدخلون محراب التاريخ . رجع السيد حافظ إلى الحاكم لأنه تماهى معه فلم يكن كاتب النص فقط بل كان ممثله والقائم بدور الحاكم ـ في خياله ـ تلك الشخصية التي لبسها فعشقها لأنهما عشقا القاهرة معا ، فأداها على الركح ، وهو يتخيلها ويكتبها قبل أن يراها مجسدة على الركح ، فأنطقها بلغته ولهجته وبلغة بيرم التونسي ولهجته ، فجاءت مصرية لحما ودما اسكندرانيا منطلقا . لذلك أباح لنفسه أن "يدنس المقدس" وأن ينطق التاريخ بالعامية المصرية ليعطيه طعم الحلاوة ويهتك السر ، سر الحاكم بأمر الله وتاريخه ولغته وطقوسه الإسلامية الصوفية .
وأما علي أحمد ياكثير الذي عاصر شوقي وحافظ إبراهيم وتوفيق الحكيم وكتب الكثير من المسرحيات شعرا : " لقد كان على علي أحمد باكثير أن يواجه هذه المشكلة وكان عليه أن يقدم لها ـ للمرة الأولى في تاريخ المسرح الشعري العربي ـ الحل الصحيح : أن يخلق الشكل الشعري الأكثر ملاءمة لطبيعة المسرح في مواقفه وأنماطه الشخصية المختلفة ، أي أن يخلق لغة شعرية جديدة تتسع لحركة الصراع الدرامي بين الشخصيات المتباينة … "(148) .
كتب باكثير القصة والرواية وكتب المسرح الشعري " وباكثير من أكثر أدباء هذا الجيل جدا ومثابرة وانتظاما فما يمر عام إلا وله كتاب أو أكثر حتى أربت كتبه المطبوعة على الخمسة والعشرين عدا أربعة أخرى تحت الطبع ، ومعظم هذه الكتب من المسرحيات إذ أنها الشكل الذي يؤثره على بقية الأشكال الفنية ... "(149) .
سار علي أحمد باكثير على هدي شوقي الذي كان متأثرا به تأثرا شديدا فوجد في التاريخ العربي الإسلامي معينا لا ينضب لاستيقاء مواضيع مسرحياته ولكن دون أن يسجن نفسه فيه " هل لي بعد ذلك أن أتمنى لو ركز الصديق الكبير علي أحمد باكثير جهوده في ميدان المسرحية التاريخية الجادة بعد أن أثبت في أعمال كثيرة تفوقه فيها وسيطرته على أدواتها وميله الطبيعي لعلاجها سواء من ناحية ثقافته أو أسلوبه العربي المشرق ... "(150) .
إذا كنا قلنا إن السيد حافظ كان قريبا من بيرم التونسي فإن باكثير كان قريبا من شوقي في جزالة تعبيره ولغته الشعرية الفخمة . وبالرغم من أن مسرحية الحاكم كانت نثرا إلا أنه قد تخللتها العديد من المقاطع الشعرية كما في الصفحات 45و46و108و126 وغيرها ... ذات النفس الغنائي الرومنسي البعيد عن العمق الدرامي والنفس المسرحي . كانت ظاهرة الرومنسية سمة من سمات ضعف المسرح الشعري العربي لازمت شوقي وعزيز أباظة وحتى عبد الرحمان الشرقاوي فما بالك بعلي أحمد باكثير الذي كان زاده الشعري يأتي في الدرجة الثانية بعد هؤلاء " وإذا كانت أعمال شوقي والحكيم أهم الإضافات إلى النص المسرحي خلال هذه الفترة فلا يجب إغفال الإشارة إلى محاولات باكثير إدخال الشعر المتحرر من العمود التقليدي إلى المسرح ... "(151) .
كتب علي أحمد باكثير مسرحيته نثرا ولكن النفس الشعري الغنائي كان طاغيا على المسرحية لذلك يمكن أن تمتع قارئها ولكن ليس بالضرورة أن تمتع مشاهدها ، ولكن عذر الكاتب يكمن في أنه متقدم زمانيا على السيد حافظ والبشير القهواجي .
كتب باكثير مسرحيته في فترة مازال فيها النص المسرحي العربي يبحث عن نضجه الفني وعمقه الدرامي بعيدا عن الغنائية التي ميزت المسرح العربي منذ بداياته وحتى نهاية الأربعينات . وجد المسرح عندنا في التاريخ العربي الإسلامي ضالته المفقودة فطغت الغنائية والرومانسية على النصوص المسرحية التاريخية بحثا عن البطل التاريخي الغائب عن الراهن المأزوم والمهزوم . لذا كانت الرغبة في البحث عن الأسرار لدى أبطال التاريخ ليعيدوا للإنسان العربي شيئا من توازنه النفسي والاجتماعي .
عثر الكتاب المسرحيون العرب على أبطالهم ـ ومنهم باكثير ـ بعد أن بحثوا في أسرارهم فجاء هذا البحث مليئا بالرومنسية والغنائية ، وهذا ما لاحظناه عند علي أحمد باكثير الذي يبحث لاهثا عن سر الحاكم بأمر الله حتى عثر عليه من خلال تأويلات تبرر أفعاله التي أدانها المؤرخون فصوره بطلا رومنسيا مثاليا يتأثر بسرعة كبيرة بكل الأشياء المحيطة به فهو يمتاز بحساسية مفرطة جعلت منه شخصية غير محددة الأبعاد فلم يوفق في رسم ملامحها رسماً دقيقا ، لأن الحوار الذي طغى عليه النفس الشعري الغنائي أفقد البناء الدرامي عمقه وتماسكه وبالتالي حرم الشخصية من البناء والتحليل .
كان باكثير شاعرا وكان يحب المسرح وكان يعشق لغته العربية وكان يحس بتعاطف وتماه كبيرين مع أبطاله التاريخيين فلم يوفق في عمله هذا إلى نص مسرحي يمكن أن يستجيب إلى تقنيات الكتابة المسرحية المتعارف عليها في الغرب لأن تراثه الشعري قد خانه نتيجة هذا الحمل الثقيل الذي وضعه باكثير على كاهله .
وإذا تركنا علي أحمد باكثير وحاولنا أن ندخل عالم لغة البشير القهواجي ـ الذي والحق يقال ـ كان أكثر الكتاب اعتناء باللغة إذ استطاع أن يمزج بذكاء كبير وخيال واسع ثلاثة مصادر أساسية وهي الإنجيل والقرآن والشعر العربي ويخرج بنص ينبض ايقاعاً وحيوية حتى علق عليه أحد النقاد قائلا : " إنه انفجار الأعصاب ، صرخة القلب ، نشيد الجسد الرائع الموجع … نص قوي جميل عنيف وفي أدق المصطلحات رؤيوي ، إنه عمل شاعر كبير ، عمل مؤسس "(152) .
بعد أن قلنا إن السيد حافظ قريب من بيرم التونسي وباكثير قريب من شوقي نقول إن البشير القهواجي قريب من عمر الخيام ومحمود المسعدي . تميزت لغة القهواجي بالشاعرية والتكثيف والايحاء وعمق الدلالات وتقاطعها ، فكانت لغة الدراما الوجودية ( بالمعنى الصوفي للكلمة ) بدون شك حيث كانت كل كلمة وكل جملة تحمل في طياتها طاقة درامية كبيرة لذلك فاحت من المسرحية رائحة أعظم المآسي الإنسانية في الفن والحياة ، مأساة أوديب ، مأساة المسيح ، مأساة الخيام ، مأساة الحلاج ومأساة الإنسان بشكل عام ومأساة القهواجي بشكل خاص ، هذا الشاعر الذي ركبته عقدة المتنبي عقدة المثقف الموزع بين السياسة والفن ، بين السياسة كفعل مدنس والشعر كفعل مقدس . كانت لغة القهواجي درامية في حروفها وكلماتها وجملها وحواراتها لأنها كانت نابعة من إحساس مأساوي بالوجود لدى شاعر عرف كيف ينتقي المصادر من إنجيل وقرآن وفكر صوفي وتراث شعري عربي ممتد عبر قرون وشعر غربي اطلع عليه القهواجي عند شكسبير ورنبو وجرار دي نرفال فكتب لنا نصا مسرحيا في قمة الدرامية والشاعرية .
أن يكون الحاكم بأمر الله موضوع نصوص مسرحية عربية ليس غريبا ، لأن أغلب هذه الشخصيات القلقة في التراث الإنساني كانت مواضيع مسرحيات ويكفي أن نذكر كاليغولا ، نيرون ، ومراد الثالث ، لأنهم فعلا كانوا أبطالا تراجيديين مثل أبطال الإغريق .
إن العودة إلى التاريخ العربي الإسلامي وإعادة إحياء شخصية من شخصياته القلقة أعطاها الكتاب أبعادا جديدة وأحيوها حياة جديدة وكتبوا لها عمرا جديداً ، البشير القهواجي أعطاها أبعاداً شيعية صوفية فألهها وأكسبها خلود أئمة الشيعة الممثلين في المهدي المنتظر ، والسيد حافظ أعطاها أبعادا اجتماعية نضالية فجعلها ندا لأبي ذر الغفاري والحلاج فأكسبها خلود المناضلين الشرفاء الذين ضحوا في سبيل المثل العليا من حق وعدل ومساواة وإيمان بأن الإنسان هو خير ما في هذا الوجود . وأما الأستاذ علي أحمد باكثير فقد أعاد له اعتباره بعد أن برأه من التهمة التي ألحقها به المؤرخون فجعله مسلما مؤمنا ارتكب خطأ بايعاز من غيره والله غفور رحيم فتحصل على صك غفران وعاد إلى قبره مسلما حنبليا .



(1) باكثير ، علي أحمد : سر الحاكم بأمر الله ، مكتبة مصر للطباعة ودار مصر للطباعة ، القاهرة 1977 ، 152ص .
(3) د/ البعلاوي ، محمد ، ابن هانئ المغربي الأندلسي ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ـ لبنان 1985 ، ص : 129 .
(3) الأتابكي ، جمال الدين : النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر ، القاهرة ، الجمهورية العربية المتحدة ، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب (د.ت ) ، ج4 ، ص : 176.
(4) نفس المصدر ، نفس الصفحة.
(5) نفس المصدر . ص : 177 .
(6) نفس المصدر ، ص :178 ـ 179 .
(7) نفس المصدر ، ص : 180 .
(8) نفس المصدر ، ص : 181 .
(9) نفس المصدر ، ص : 182 .
(10) نفس المصدر ، ص : 183 .
(11) نفس المصدر ، ص : 184 .
(12) نفس المصدر ، ص : 185 .
(13) نفس المصدر ، ص : 186 .
(14) نفس المصدر ، ص : 185 ( مع ضرورة العودة للهوامش لتوضيح بعض الغموض في المواقع والكلمات )
(15) نفس المصدر ، ص : 187.
(16) نفس المصدر ، ص : 189.
(17) نفس المصدر ، ص : 91.
(18) نفس المصدر ، ص : 184.
(19) باكثير ، علي أحمد : سر الحاكم بأمر الله ، مكتبة مصر ودار مصر للطباعة ، القاهرة ، رقم الإيداع 4691/89 ، 152 ص .
(20) يبدو أن شخصية الحاكم قد استهوت كتابا آخرين حيث "قدمت مسرحيات تاريخية أخرى لابراهيم رمزي من بينها " الحاكم بأمر الله " انظر ازدهار وسقوط المسرح المصري ، فاروق عبد القادر ، ص : 16.
(21) باكثير ، علي أحمد ، مرجع مذكور ، ص : 49.
(22) باكثير ، علي أحمد ، المرجع السابق ، ص : 85.
(23) باكثير ، علي أحمد ، نفس المرجع ، ص : 107.
(24) نفس المرجع ، ص : 111.
(25) نفس المصدر ، ص : 137.
(26) نفس المصدر ، ص : 149.
(27) القهواجي ، البشير : بيارق الله ، دار الف للنشر ، تونس 1981 ، 62ص .
(28) نفس المرجع ، ص : 11.
(29) نفس المرجع ، ص : 17.
(30) نفس المرجع ، ص : 28.
(31) نفس المرجع ، ص : 35.
(32) نفس المرجع ، ص :36.
(33) نفس المرجع ، ص : 42
(34) نفس المرجع ، ص :44
(35) نفس المرجع ، ص : 50
(36) نفس المرجع ، ص : 52
(37) نفس المرجع ، نفس الصفحة .
(38) نفس المرجع ، ص : 54
(39) نفس المرجع ، ص :55
(40) نفس المرجع ، ص : 62
(41) نفس المرجع ، نفس الصفحة .
(42) نفس المرجع ، نفس الصفحة .
(43) حافظ ، سيد : حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله ، مركز الدلتا للطباعة ، القاهرة 1993، 118ص .
(44) نفس المرجع ، ص : 8
(45) نفس المرجع ، ص : 9
(46) نفس المرجع ، ص : 14
(47) نفس المرجع ، ص : 22
(48) نفس المرجع ، ص : 23
(49) نفس المرجع ، ص : 27
(50) نفس المرجع ، ص : 53
(51) نفس المرجع ، ص : 60
(52) نفس المرجع ، ص : 63
(53) نفس المرجع ، ص : 67
(54) نفس المرجع ، ص : 72
(55) نفس المرجع ، ص :74
(56) نفس المرجع ، ص : 80
(57) نفس المرجع ، ص : 80
(58) نفس المرجع ، ص : 83
(59) نفس المرجع ، ص : 90
(60) نفس المرجع ، ص : 95
(61) نفس المرجع ، ص : 97
(62) نفس المرجع ، ص : 105
(63) نفس المرجع ، ص : 106
(64) نفس المرجع ، ص : 107
(65) نفس المرجع ، ص : 108
(66) نفس المرجع ، ص : 108
(67) نفس المرجع ، ص : 116
(68) باكثير ، علي أحمد : سر الحاكم ... ، مرجع مذكور ، ص : 107
(69) الأتابكي ، جمال الدين : النجوم الزاهرة ، مصدر مذكور ، ص : 20
(70) الأتابكي ، جمال الدين : النجوم الزاهرة ، مصدر مذكور ، ص :20
(71) العلوي ، هادي : مدارات صوفية .
(72) نفس المصدر السابق ، ص : 188
(73) القهواجي ، بشير : بيارق الله ، مرجع مذكور ، ص : 11
(74) حافظ ، السيد : حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله ، مرجع مذكور ، ص : 114
(75) نفس المرجع السابق ، ص : 116
(76) Aziza , mohamed : les formes traditionnelles du spectacle M .T. E , Tunis 1972.
(77) الأتابكي ، جمال الدين : النجوم الزاهرة ، مصدر مذكور ، ص : 176
(78) باكثير ، علي أحمد : سر الحاكم بأمر الله ، مرجع مذكور ، ص : 130
(79) باكثير ، علي أحمد ، نفس المرجع ، ص : 136
(80) نفس المرجع ، ص : 142
(81) القهواجي ، البشير : بيارق الله ، مرجع مذكور ، ص : 51
(82) نفس المرجع ، ص : 62
(83) نفس المرجع ، نفس الصفحة .
(84) حافظ ، السيد : حلاوة زمان أو عاشق القاهرة ... ، مصدر مذكور ، ص : 106
(85) حافظ ، السيد : نفس المصدر ، ص : 100
(86) حافظ ، السيد : نفس المرجع السابق ، ص : 114
(87) العلوي ، هادي ، مدارات صوفية ، مصدر مذكور ، ص : 105
(88) باكثير ، علي أحمد : سر الحاكم ... ، مرجع مذكور ، ص : 127
(89) القهواجي ، البشير : بيارق الله ، مرجع مذكور ، ص : 27
(90) حافظ ، السيد : حلاوة زمان ... ، مرجع مذكور ، ص : 68
(91) نفس المصدر ، ص : 82
(92) الاتابكي ، جمال الدين : مصدر مذكور ، ص : 184
(93) نفس المصدر ، ص : 186
(94) العلوي : مدارات صوفية ، مصدر مذكور ، ص : 96
(95) نفس المصدر ، ص : 203
(96) نفس المصدر ، ص : 73
(97) نفس المصدر ، ص : 77
(98) الأتابكي ، جمال الدين : النجوم الزاهرة ، مصدر مذكور ، ص : 177
(99) نفس المصدر ن ص : 183
(100) القهواجي ، البشير : بيارق الله ، مرجع مذكور ، ص : 21
(101) نفس المرجع ، ص : 96
(102) نفس المرجع ، ص : 62
(103) القهواجي ، البشير ، نفس المرجع ، ص : 7
(104) نفس المرجع ، ص : 10
(105) نفس المرجع ، ص : 36
(106) نفس المرجع ، ص : 62
(107) نفس المرجع ، ص : 62
(108) باكثير ، علي أحمد : الحاكم بأمر الله ، مرجع مذكور ، ص : 31
(109) نفس المرجع السابق ، ص : 33
(110) نفس المرجع ، ص : 33
(111) نفس المرجع ، ص : 38
(112) نفس المرجع ، ص : 70
(113) نفس المرجع ، ص : 81
(114) العلوي ، هادي : مدارات صوفية ، مرجع مذكور ، ص : 89
(115) السيد ، حافظ ، مرجع مذكور ، ص : 50
(116) نفس المرجع السابق ، نفس الصفحة.
(117) نفس المرجع ، ص : 49
(118) نفس المرجع ، ص : 42
(119) نفس المرجع ، ص : 68
(120) نفس المرجع ، ص : 95
(121) العلوي ، هادي : مدارات صوفية ، مصدر مذكور ، ص : 109
(122) السيد ، حافظ : مرجع مذكور ، ص : 108
(123) العلوي ، هادي : مصدر مذكور ، ص :88
(124) القهواجي ، البشير : مرجع مذكور ، ص : 54
(125) نفس المرجع السابق ، ص : 55
(126) باكثير ، علي أحمد ، مرجع مذكور ، ص : 55
(127) نفس المرجع السابق ، ص : 44
(128) نفس المرجع ، ص : 48
(129) نفس المرجع ، ص : 49
(131) حافظ ، السيد ، مرجع مذكور ، ص ص : 14 ـ 15
(132) نفس المرجع السابق ، ص ص : 37 ـ 38
(132) نفس المرجع ، ص : 41
(133) نفس المرجع ، ص : 77
(134) نفس المرجع ، ص : 30
(135) نفس المرجع ، ص : 92
(136) نفس المرجع ، ص : 96
(137) العلوي ، هادي ، مصدر مذكور ، ص : 92
(138) حافظ ، السيد ، مرجع مذكور ، ص : 11
(139) نفس المرجع السابق ، ص : 105
(140) العلوي ، هادي : مصدر مذكور ، ص : 82
(141) حافظ ، السيد : مرجع مذكور ، ص : 95
(142) القهواجي ، البشير ، مرجع مذكور ، ص : 95
(143) نفس المرجع السابق ، ص : 16
(144) نفس المرجع ، ص : 22
(145) نفس المرجع ، ص : 42
(146) حافظ ، السيد : مرجع مذكور ، ص :77
(147) نفس المرجع ، ص :80
(148) سلام ، رفعت : المسرح الشعري العربي ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، القاهرة 1986 ، ص : 63
(149) دوار ، فؤاد : في النقد المسرحي ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر ، القاهرة 1965 ، ص : 344
(150) نفس المصدر ، ص : 349
(152) عبد القادر ، فاروق : ازدهار وسقوط المسرح المصري ، منشورات وزارة الثقافة ، سوريا ـ دمشق 1983 ، ص ص 49ـ50
(152) القهواجي ، البشير : بيارق الله ، صفحة الغلاف عدد 4 ، مرجع مذكور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق