الخميس، 2 أبريل 2009

مسرحية قراقوش والاراجوز والحرفوش


مسرحية قراقوش والاراجوز والحرفوش
بين النص والعرض
فى مسرح السيد حافظ












دراسة نقدية مسرحية بقلم
ثوريا ماجدولين



















مقدمة :
يختلف فن المسرح عن باقي الأجناس الأدبية في كونه لا يقف عند حدود النص المكتوب ، بل هو لا يكتمل إلا بوجود عناصر أخرى فنية وتقنية كالديكور والملابس والإضاءة والإكسسوارات والموسيقى والتشخيص ...فهذه العناصر الجمالية هي التي تشكل الصورة النهائية للكتابة المسرحية . كما أن أي قراءة نقدية تتوقف عند حدود النص المكتوب في المسرحية تظل مجرد مشروع ، في انتظار مشاهدة العرض . من هنا تكون قراءتنا لمسرحية "قراقوش والأراجوز والحرفوش" للسيد حافظ ، مجرد مشروع قرائي يتوخى الكشف عن المكونات الفكرية والجمالية وبنية التناص التي تتحكم فيهما ، وعناصر الكتابة السينوغرافية للنص ، دون أن يدعي الإلمام بكل ما تستحقه هذه المسرحية من أهمية .
وهذه المسرحية هي من الإنتاجات الأخيرة للسيد حافظ ، الكاتب المصري الذي أغنى الريبيرتوار المسرحي بعطاءات متميزة ، نذكر منها مسرحيات :"كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى"( 1970 )و"حبيبتي أنا مسافر" (1979 )و"ظهور واختفاء أبي ذر الغفاري"(1981) و"حكاية الفلاح عبد المطيع"( 1982 ) ، إضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان "سمفونية الحب" ومسرحيات للأطفال . وقد حاز على جائزة أحسن مؤلف لعمل مسرحي موجه للأطفال في الكويت عن مسرحية "سندريلا"سنة 1973 . وهو يعتبر المسرح أداة لتغيير المجتمع ، حيث تعكس أعماله واقع وطموحات الطبقة الدنيا في المجتمع ورغبتها في تحسين واقعها .
وقد استفاد السيد حافظ من دراسته العلمية في الفلسفة والاجتماع وعلم النفس ، مما أهله لاستيعاب دور الفرد في المجتمع ، واستيعاب تحولات العصر ، التي عبر عنها في مسرحياته المجسدة لآلام وآمال المقهورين والمظلومين ، فكان بذلك شاهدا على عصره . يقول عن نفسه : "أنا من الفنانين القلقين ...أنا أبحث عن شكل مسرحي جديد مع جيلي وجيلي
كله مظلوم ...نحن نبحث عن الجمهور الجديد ..حينما ظهرت أعمالنا ، اصطدمت بالزعماء المبدعين وقادة الفكر المثبتين ...نحن نطالب بتجديد المسرح العربي ..."1 .
والسيد حافظ كاتب جريء ، يهتم بقضايا الإنسان المعاصر ويحاول أن يكشف معاناته السياسية والاجتماعية ، ويعري الجراح التي تخلفها هذه المشاكل على الذات الإنسانية ، ويبرز أثر مادية العصر وعدم الاهتمام بالجانب الروحي وما يخلف ذلك من أثر بليغ على الإنسان المعاصر . كما أنه من الذين فهموا التراث واستوعبوه ووظفوه باقتدار في أعمالهم المسرحية ، حيث عمل على تسخيره لخدمة القضايا الإنسانية التي يناقشها في مسرحياته من خلال اعتماده على التجريب لأن التجريب وحده كفيل بأن يضمن له التجديد الذي يصبو إليه .
والتجريب الأدبي والدرامي كما يقول المرحوم محمد الكغاط : " عبارة عن اقتراحات في مجالات الإبداع المختلفة ، اقتراحات يقصد بها خلخلة ما هو سائد من أجل فتح آفاق جديدة ، وإثارة أسئلة جديدة والبحث عن صيغ جديدة للخطاب والتواصل ."2 وقد ظهرت أولى مظاهر التجريب على يد كل من توفيق الحكيم وعلي الراعي ويوسف إدريس وسعد الله ونوس .
ويتجلى التجريب في مسرحيته هذه بشكل واضح من خلال التمرد والثورة على المفاهيم الجاهزة والثابتة في المسرح ، إن على مستوى المضامين التي تتوزع بين المحور الاجتماعي والمحور السياسي والمحور الوطني ، أو على مستوى طريقته في التعبير التي تستفيد من الإضاءة والديكور والاكسسوارات ، وكل ما يوظف في العرض المسرحي لإعطائه طابعا خاصا .
- الفكري والجمالي وبنية التناص :
يقوم السيد حافظ في هذه المسرحية باستدعاء التراث من خلال الرمز التاريخي القوي : صلاح الدين الأيوبي . غير أنه يفكك هذا الرمز من خلال تحليله الخاص للتاريخ ، ومن خلال استدعاء شخصيات أخرى اتخذت صورة الرمز كالقاضي والوزير والأديب والتاجر والمرأة والأراجوز ، مستعينا بعنصر آخر من التراث المسرحي وهو"خيال الظل" . خيال الظل كما نعلم وثيق الصلة بالفنون الشعبية ، ويقوم على العرض التاريخي للأخبار المدونة في الكتب ، لذلك لم يتعمد السيد حافظ هنا إدراجه في مسرحيته هذه بل إن السياق التاريخي المحيط بالمسرحية يفرض ذلك . فقد أثر عن القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي أنه كان يشاهد خيال الظل بمعية "القاضي الفاضل"1 .
وقد جاءت المسرحية في بناء معماري متماسك يتكون من فصلين ، يحتوي الفصل الأول على خمسة مشاهد ، والفصل الثاني على أربعة مشاهد ويسميها "اللوحات" . تتصدرها افتتاحية يعطي فيها المؤلف الأهمية لنص العرض أكثر من نص التأليف ، من خلال الإرشادات المسرحية المكثفة .
والمسرحية محاولة استقراء لحظة تاريخية في تاريخ مصر ، وتحديدا في فترة حكم صلاح الدين الأيوبي وتحويلها إلى لحظة سخرية وكوميديا .
تبدأ المسرحية بوصف حالة الخوف والرعب التي عاشها الناس في فترة حكم قراقوش ، حتى إنهم يتخيلونه موجودا في كل مكان ، ولا أحد يجرؤ على معارضته ، إلا جعفر الشخصية الرئيسية في المسرحية - الذي يظهر في المشهد الأول وهو يشاكس القاضي عثمان بغية أن يأخذ منه نقودا ، وأثناء حوارهما يكشفان عن عيوب قراقوش واستبداده ، الذي بلغ حد منع الناس من الزواج ( حتى لا ينشغل الموظفون عن أداء مهامهم بهموم الزوجة والأبناء ! ).
أما في المشهد الثاني فتظهر شخصية أخرى وهي شخصية ابن مماتي الذي كان وزيرا سابقا في عهد صلاح الدين الأيوبي ، والذي سيعوض بقراقوش بعد أن تتم إقالته . وابن مماتي هذا رمز للمثقف المحبط والمغلوب على أمره ، وظهوره يتم داخل حانة ، حيث يتم الكشف عن الواقع المصري الذي تفشى فيه الفساد ( تاجر الحشيش –تاجر العبيد والجواري ...) ويتم أيضا الكشف عن الوجه الآخر للطغيان ، وهو "حرق الكتب وطرد الكتاب وحرق المكتبات واعتقال الشعراء والأدباء "1 . ومقابل الإشارة إلى صلاح الدين البطل الذي حرر بيت المقدس ووحد العرب . يظهر قراقوش وكأنه الحاكم الفعلي لمصر ، وأن "صلاح الدين له المجد وأنا لي الشعب ...كل المصريين أحكمهم ..أحرق وابني واهدم واعمر ..ذي هي بلادي "2 .
ويبدأ المشهد الثالث بمحاكمة القاضي عثمان وزوجته وجدان ، لأنهما خالفا أمر قراقوش بعدم الزواج . ويحكم قراقوش بتطليق وجدان من القاضي عثمان ، ملفقا له تهمة "محاولة قلب نظام الحكم" !، وهي التهمة التي يمكن أن نطلق عليها صفة "التهمة المعيارية" Standard حيث يتم اللجوء إليها في الأنظمة الديكتاتورية كلما عجز النظام عن إيجاد الدلائل الثابتة لإدانة من لا يرغب في وجوده ! .
وتدور أحداث المشهد الرابع في مطبخ قصر قراقوش حيث ستتولى وجدان إدارة المطبخ ، وفيه يظهر تشبت قراقوش بوجدان ، التي سيفضي إليها ببعض ما يعتبره من أسرار الدولة مثل بناء سور لمدينة عكا لمواحهة الصليبيين وعدم اطمئنانه للمصريين والفاطميين ولصلاح الدين الأيوبي . وفي المشهد الخامس يقترح ابن مماتي على فرقة خيال الظل المكونة من يوسف ، حمزة وأيوب تقديم حكاية للجمهور تظهر استبداد قراقوش ، مقابل أحد عشر كيسا من الذهب ، وبهذا المشهد ينتهي الفصل الأول .
أما الفصل الثاني فيبدأ بالمشهد السادس الذي يتم فيه تقديم حكاية خيال الظل ، وفي نفس المشهد يتم الإعلان عن أسر قراقوش من طرف الصليبيين ، ويطلب صلاح الدين الأيوبي من الشعب أداء فدية لفك أسره ، غير أن ابن مماتي والقاضي الفاضل يحرضان الناس على عـدم
دفع الفدية . ويعلن المشهد السابع شيئا جديدا للمتفرج وهو كره صلاح الدين الأيوبي للمثقفين واعتباره الشعراء والأدباء شيئا تافها .وفي المشهد الثامن يظهر قراقوش من جديد بعد فك أسره من طرف الصليبيين ، غير أنه يتعرض لمحاولة اغتيال بسهم من طرف جعفر . وتنتهي المسرحية بالمشهد التاسع الذي يموت فيه صلاح الدين الأيوبي ويتولى قراقوش الحكم من بعده .
هذه المشاهد تترابط فيما بينها وتتفاعل لتخدم الفكرة المحورية في النص ، وهي الدعوة إلى التمرد والثورة لمواجهة السلطة الديكتاتورية وتحقيق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية .
والمسرحية تعرض قضايا بالغة العمق ، تتخذ فترة من فترات التاريخ العربي منطلقا لأحداثها، وهذا ما يدل على استيعاب السيد حافظ لدور ووظيفة المسرح التي لم تعد تقتصر على كشف جراح المجتمع بل تسعى إلى اقتراح حلول وبدائل .
ورغم أن هذه المسرحية تزيل الوهم التاريخي حول صلاح الدين الأيوبي ، بنزع الهالة التقديسية التي أحيط بها ، فهي لا تقلل من شأنه ولا تنقص من قيمته البطولية ، وإنما تبحث في قيمة هذه البطولة التاريخية وآثارها في سلوك الأفراد وفي بنيتهم الفكرية . فالمؤلف يكشف لنا من خلال أحداث هذه المسرحية عن الآثار السلبية للأنظمة الديكتاتورية ، التي تنتج الاستسلام واليأس من خلال الاستغلال الذي تمارسه الطبقة الحاكمة :
كرم : اقبضوا على كل من يتجرأ ويهاجم نائب السلطان قراقوش ..ممنوع التجول في القاهرة ..كله ينام بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي .1
وهذا ليس جديدا عند السيد حافظ الذي يعتبر"من كتاب المسرح الإنسانيين ، ليس بنزعته نحو العدالة في الحياة فقط ، ولكن في اندماجه في هموم الحياة العربية ككل ، في تعبها الإنساني والمحاولة العاجزة عن خلق نظام يحقق مجتمعا جديدا تتحقق فيه سعادة تمسح الاندحار في أعماق الإنسان العربي"2 .

فالمسرحية تعالج قضية سياسية بالدرجة الأولى وهي النظام العربي الديكتاتوري المنبني على الظلم والقهر والاستبداد والشطط في استعمال السلطة . إلا أن السيد حافظ يطرح من خلالها عدة قضايا اجتماعية ، معتمدا على التجريب ، سواء من خلال توظيفه لتقنية "المسرح داخل المسرح" أو للتراث أو لتقنيات أخرى كتقنية الاسترجاع "الفلاش باك" والسيد حافظ يعري الأقنعة السياسية والاجتماعية مجربا كل التقنيات التي يتيحها له المسرح، فهو حين رام الكشف عن زيف الواقع العربي _والمصري بصفة خاصة - لجأ إلى التراث الشعبي من خلال التاريخ القومي ، وذلك باستعارة شخصية صلاح الدين الأيوبي ، ولم يكن توظيفه للتراث هنا غاية في حد ذاته ، بل وسيلة وظيفية لخلق اللاتوازن بين الواقع والتمثيل، فصلاح الدين الأيوبي شخصية تاريخية مقدسة بما يمثله من رمز للجهاد في سبيل الإسلام وحرب على الصليبيين وتحرير بيت المقدس ...غير أن التاريخ لم يضيء لنا جوانب الحكم في عهده . وبهذا يؤكد السيد حافظ المقولة التي تعلن أن التاريخ الحقيقي ليس ما يكتبه المؤرخون بل هو ما يوجد في كتب الأدباء ودواوين الشعراء ! ..هذا الاستبداد كشفه المؤلف من خلال استعارته لشخصية قراقوش المتجذرة في الذاكرة الشعبية المصرية كرمز للظلم والاستبداد .
وإذا كان التراث مصدرا مهما و غنيا في الكتابة المسرحية عموما فلأنه "ذاكرة جماعية تلتقي عندها كل الذوات.. ذاكرة موصولة بالماضي والتاريخ والأرض.."1 . والسيد حافظ من خلال لجوئه إلى التراث ، يعلن موقفه الخاص من التاريخ ومن الماضي ، يسائل التاريخ المصري في عهد صلاح الدين الأيوبي ليفهم الحاضر وليعمق الحدث ويردم البعد الزمني والمكاني بين الواقع والتاريخ . فتصبح الشخصية التراثية هنا مادة وظيفية لتفسير الواقع .
إن المواقف التي نقلها لنا السيد حافظ في مسرحيته هذه من خلال الرمزين التاريخيين المتناقضين : صلاح الدين الأيوبي وقراقوش ، هي نفسها المواقف التي تطفو الآن على سطح الواقع العربي الراهن الممزق سياسيا واجتماعيا . لذلك لجأ المؤلف إلى تغريب أحداث التاريخ بغية وضع المتلقي أمام حقائق جديدة بهدف طرح تساؤلات حول هذا التاريخ العربي بصفة عامة والمحاط بظلال الهيبة والقداسة ، ومحاولة اختراق هذه القداسة والنبش في ما اعتبر دائما من الطابوهات وهو فضح الأنظمة العربية الديكتاتورية .
والبعد التراثي في هذه المسرحية لا يقتصر على استلهام شخصية تاريخية فقط ، بل يتجلى أيضا في توظيف شكل من أشكال المسرح الشعبي القديم وهو "خيال الظل" بغية التعبير من خلاله عن الموضوع الرئيس للمسرحية ، وهو فضح ظلم واستبداد السلطة الحاكمة . ويتجلى لنا ذلك من خلال المشهد الخامس مثلا ، حيث تتحاور شخصيات تقدم "خيال الظل" عن عرض الوزير السابق ابن مماتي لهم بتقديم حكاية عن قراقوش ، مقابل أكياس من الذهب . فيظهر ظلم قراقوش من خلال كلام يوسف :
" ما انت شايف من يوم العلقة اللي عطاها لنا قراقوش واحنا مش لاقيين شغل وخايفين نقدم أي حاجة"1
وكذلك في الحوار الآتي :
يوسف : هي الحكاية اسمها إيه ؟
ابن مماتي : الفاشوش في حكم قراقوش .
الجميع : إيه قراقوش ! ( ينظرون إلى بعضهم )
يوسف : انت بتهزر .
ابن مماتي : أنا ما بهزرش ..حتقدموا حكايات عن قراقوش في الأراجوز .
أيوب : ياعم احنا لسه طالعين من مشكلة مع قراقوش واتفقنا نقدم حكايات عن الشاطر حسن..عن ست الحسن ..عن عنتر..عن أبوزيد الهلالي لكن عن قراقوش ! دي الصعبة ..فيها شنقة .2
وفي نهاية الحوار ، وتبعا للإغراء المادي سيقبل أفراد الفرقة بتقديم الحكاية . وهي حكاية تدخل في ما يسمى بالكوميديا السوداء ، حيث يتوسل الكاتب بالضحك من أجل كشف الحقائق السياسية والاجتماعية المؤلمة :
يوسف : يا عم الوزير وأنا ماشي في سكتي ومراتي جنبي ..ضرب العسكري عبد الموجود الست بتاعتي في بطنها فسقطت ..والواد اللي في بطنها سقط ..ابني مات ابني مات ..سقط .
أيوب : الكلام دا صحيح يا عبد الموجود ؟
حمزة : غصبن عني يا مولاي الوزير قراقوش ..والله ماخت بالي .
أيوب : خلاص ..خلاص..العسكري عبد الموجود .
حمزة : نعم يا سيدنا الوزير قراقوش
أيوب : خد الست دي عندك...مرات الفلاح يوسف أكلها وشربها وحميها وامليها (يضحك الناس ) ولما تبقى حامل في سبع شهور رجعها لجوزها ومعاها عيل في بطنها ..وتبقوا خالصين .
يوسف : عليه العوض ...يللا يا ام العيال .
( يضحك الناس ويصفقون )1
هكذا استطاع السيد حافظ أن يسخر هذا الشكل التراثي الشعبي لخدمة قضية سياسية . وبما أن الشخصيات التي مثلت "خيال الظل" هي نفسها التي تقوم بأدوار رئيسية داخل المسرحية ، يمكن أن نعتبر ذلك توظيفا لتقنية "المسرح داخل المسرح" ، وهي تقنية ترمي إلى التمرد ضد الإيهام الأرسطي الذي ينحصر في التقليد الكامل للواقع . كما تعتبر عملية هامة تساعد على إضفاء جمالية على النص الدرامي . وقد وظف هذه التقنية كذلك في المشهد الثاني من المسرحية معتمدا على تقنية "الفلاش باك" ليبين كيف أقال صلاح الدين الأيوبي الوزير ابن مماتي ليجعل مكانه قراقوش .
وإذا كان التراث العربي الإسلامي من أهم مرجعيات المسرح الاحتفالي فإنه يتماشى هنا مع رغبة السيد حافظ في التجريب المسرحي . حيث نجد مظاهر عدة للمسرح الاحتفالي في هذه المسرحية ، كتوظيفه لفضاء الأسواق والحلقة :
( يتغير الديكور مع موسيقى القراقوز .. وأصوات الباعة الشعبيين ..مع فيد إن إضاءة ..يدخل ديكور السوق)
في المستوى الثالث : دكان عبود الجزار ..دكان حنا الحلاق ودكان سمحون الحلواني
في المستوى الثاني : مدخل للحارة في اليمين وبائع حلوى يجلس على الأرض ..في اليسار بائع بقفص برتقال
في المستوى الأول : أمام الجمهور فراغ ساحة السوق .
( يدخل تابلوه استعراضي ..القراقوز بما يعني ..)
حكايات الأراجوز ..
أفضل من أكل اللوز ..
كلها معاني وكلها أغاني
وبعد انتهاء التابلوه يقومون بتقديم ستار كبير لخيال الظل .1
ويبدو أن المسرح الاحتفالي يحضر بقوة أيضا من خلال خاصياته : الإدهاش والتحدي والتجاوز واعتبار الممثل محور العمل المسرحي إلى جانب تناوله لقضايا الناس المجتمعية ، كالفقر والجهل والمخدرات ...
فجعفر مثلا وهو الشخصية الرئيسية في المسرحية ، يتحدى قراقوش في مواقف عديدة داخل المسرحية ، وهو بذلك يحدث الإدهاش في ذهن المتلقي لأنه يخرق المألوف والعادي مقارنة مع الواقع العربي الذي لا يجرؤ فيه المواطن العادي على تحدي السلطة الحاكمة ، مما يجعله يطرح التساؤل عن هذه الشخصية وعن مصيرها . والمسرحية أيضا تقوم على الصراع مع الواقع من أجل تغييره وفي هذا يتجلى التحدي بكل مظاهره .كما أن ما يتلقاه المشاهد عن فترة حكم صلاح الدين الأيوبي ، يثير الاستغراب في ذهنه ، وبذلك يتحقق الإدهاش . وبتوفر هاتين الخاصيتين لابد للمتلقي أن يصل إلى ما يسمى في المسرح الاحتفالي بالتجاوز ."فالمتلقي في المسرح الاحتفالي عنصر فاعل ، لذلك فهو يعمل على تجاوز تناقضات مجتمعه "2.
كما يلتقي الجانب الأيديولوجي للمسرحية مع التصور الأيديولوجي للمسرح الاحتفالي الذي يعتبر نفسه معنيا بما يجري في الواقع ولذلك يسعى إلى التغيير عن طريق الممارسة الفعلية .وهذا ما فعله ابن مماتي _ المثقف الوحيد في المسرحية- حين أوعز لفرقة "خيال الظل" بتقديم حكاية عن ظلم قراقوش من أجل فضحه . وكان من الطبيعي أن يتخذ ابن مماتي هذا الموقف باعتبار أن المثقف مسؤول عن تغيير أوضاع بلاده .
إن الاحتفالية "موقف من الوجود ومن السياسة والأخلاق ، ومن الحياة والموت ومن التراث أيضا . وهو موقف يقوم على أساس الرفض ، رفض السائد والجاهز والعادي وذلك بحثا عن الغريب والمدهش والمرعب والمثير"3 . وكل هذا نجده في مسرحية " قراقوش والأراجوز والحرفوش" التي يبرز فيها موقف السيد حافظ تجاه الواقع والتاريخ :
جعفر : ( يشرب كأس ) أنا عايز أفهم حاجة واحدة بس ...صلاح الدين الأيوبي
عايز إيه بالضبط .
صلاح الدين : (يظهر ) التاريخ الذي سيقول من الذي وحد العرب والمسلمين
..وحرر بيت المقدس .
( صياح الجماهير ..عاش صلاح الدين )
جعفر : وقراقوش بيعمل إيه بالضبط .
قراقوش : ( يظهر في البرواز ) أنا الحاكم الفعلي لمصر والسلطان صلاح الدين له المجد
وأنا لي الشعب ..كل المصريين أحكمهم ..أحرق وابني واهدم واعمر دي
هي بلادي
جعفر : والناس فين ؟
القاضي الفاضل : ( يظهر في البرواز ) عيني عليك يا شعب مصر ..عيني عليك يا بلد
لحد الآن ما جاش ليكي ولد يحكم أرضك وناسك ..شارب من مية نيلك ..مولود من أب مصري وأم مصرية ..حتى صلاح الدين ساب قراقوش يتحكم في العباد ..عيني عليك يا بلد 1.
والاحتفالية تركز على جوهر الظاهرة المسرحية أي على الاحتفال في حد ذاته ، لذلك نجد المؤلف يلجأ هنا إلى بعض مظاهر الاحتفال ، كالاستعراض والغناء والرقص وهتاف الجماهير بحياة صلاح الدين الأيوبي : ( يتحرك الديكور إلى الحارة والساحة والناس فرحة وفي هرج ومرج ....ويخرج الزعران والشطار والقراقوزات في احتفالية فرحين بجعفر ووجدان وعم عبود ووحيدة وتقف نرجس تزغرد ) 2
ومن عناصر التجريب الأخرى الأكثر بروزا في هذه المسرحية ، اعتماد السيد حافظ على بعض مرتكزات المسرح الملحمي ، كتقنية التغريب التي تسعى إلى تنبيه المتفرج إلى كونه لا يشاهد أحداثا تجري أمام عينيه وإنما عليه أن يفكر ويتساءل في هذه الأحداث . وعنصر التغريب من أهم عناصر المسرح الملحمي ، حيث يعتمده المؤلف بهدف إلغاء حالة الاستيلاب التي كرسها المسرح الأرسطي . ويتجسد التغريب هنا في التكثيف الدرامي الإيحائي للأحداث والذي يسعى من ورائه المؤلف إلى دفع المتفرج نحو تملك الواقع من جديد . ويحضر التغريب في المشهد الأول :
جعفر : انت اجوزت إمتى ؟
عثمان : من شهرين ( ينظر حوله ) بس في السر
جعفر : في السر ليه ..هو الجواز حرام
عثمان : لا مش حرام بس خايف من قراقوش ..
جعفر : ليه تخاف من قراقوش ..دا جواز في الحلال
عثمان : لما يعرف ان واحد اتجوز من الموظفين بيطرده من وظيفته ..بيقول مش عايز جواز وعيال احنا عاملين سياسة التقشف ..وبيدوروا ويفتشوا بيوت الموظفين .. أحسن يتجوزوا من ورا قراقوش .1
فالحدث هنا غير مألوف بالنسبة للمشاهد ،وهو قيام السلطة الحاكمة ( ممثلة بقراقوش ) بمنع الموظفين من الزواج ، حتى لا تشغلهم هموم البيت والأطفال عن أداء مهامهم ، وبالتالي لابد أن يثير هذا الحدث في ذهنه مجموعة من التساؤلات التي تجعله مشاركا في الأحداث . وهذه التساؤلات لا تبقى محصورة داخل قاعة العرض بل تنتقل إلى الواقع ، وهذا هو هدف المسرح الملحمي .كما أن عملية المسرحة théâtralité التي تتجلى في حوار الشخوص من وراء البراويز في المشهد الثاني ، تنبه عقل المتفرج وإحساسه ، وتسمو به إلى عالم جمالي وخيالي متنوع الحركات والأبعاد الفكرية ، وهذا يدخل في صميم الملحمة البريختية كما خطط لها بريخت في الأرغانون الصغير. ويتحقق الجانب الملحمي هنا أيضا في أدلجة المتفرج وتسييسه طبقيا ، فالملحمة البريختية تنظر إلى الفن الدرامي على أنه واجهة من واجهات الصراع الاجتماعي ، ومسرحية "قراقوش والأراجوز والحرفوش" تهدف إلى تعرية الواقع العربي وتحديدا الواقع المصري المهترئ ، وفضح أساليب القهر الاجتماعي التي يعاني منها الإنسان المصري البسيط ، من أجل إعادة الاعتبار إليه وحمله على تجاوز معاناته ومواجهة الإحباطات التي يعرفها .
كما أن تركيز المؤلف على قضايا الإنسان البسيط ، تبين الجانب الملحمي للمسرحية وذلك ليكون الجمهور فاعلا في العرض المسرحي . ولأجل هذه الغاية يلجأ إلى تقنية جمالية أخرى ، تتمثل في تحطيم الجدار الرابع ، يتجلى ذلك مثلا في الإرشادات المسرحية في الصفحة 11 حيث نجد : ( بضيق وهو يحرك جيوبه في الهواء للجمهور ) .ولم يقتصر استيحاؤه للمسرح الملحمي على هذه الجوانب بل أخذ منه أيضا النهاية المفتوحة ، حيث إن موت صلاح الدين المعلن عنه في نهاية المسرحية لم يتبعه إنهاء وجود قراقوش في الحكم كنتيجة منطقية ، بل بالعكس من ذلك سيتولى قراقوش سلطة البلاد ويتسلم مقاليد الحكم ، وبذلك ستترسخ المعاناة وتبدأ محنة جديدة .
الصراع الدرامي :
إن الصراع الدرامي يعد مفتاحا لإضاءة جوانب متعددة من أحداث المسرحية ، وهو يظهر هنا في عدة مستويات ، فالمعروف عن السيد حافظ أنه لا يفصل بين السياسي والاجتماعي في أعماله المسرحية ، غير أن الصراع ضد السلطة يظل في المقدمة . ومما يسم الصراع هنا بطابع الحدة :كثرة الأسئلة ، وهي أسئلة مستفزة قلقة تساهم في إبراز وتعميق التيمات الأساسية في النص والمتمحورة حول الصراع الفكري ضد السلطة المطلقة التي تستعبد الإنسان . وكلما اشتد الصراع إلا وظهرت علاقة الشخصيات وتحددت مواقفها بصورة واضحة .
الشخصيات :
ولتجسيد هذا الصراع وظف السيد حافظ هنا مجموعة كبيرة من الشخصيات ، مما يبرز البعد الاحتفالي في النص . وإذا كانت الشخصية عموما تعتبر عنصرا أساسيا في الكتابة المسرحية ككل ، فقد أعطى السيد حافظ هنا أهمية بالغة لشخصياته . فشخصية جعفر تمثل صورة للإنسان العربي الكادح الذي يسعى إلى التغيير ، أما شخصية القاضي عثمان فجاءت نموذجا للإنسان العاجز الذي لا يجرؤ على اتخاذ موقف معين تجاه الواقع الظالم ، وهذا النوع غالبا ما ينتهي إلى الجنون تحت تأثير الضغط النفسي ، أما شخصية صلاح الدين الأيوبي فبدت هنا باهتة رغم الإشارات البطولية القليلة التي كان المؤلف يسبغها عليه من حين لآخر . وعلى العموم فشخصيات هذه المسرحية ، شخصيات ضائعة تتلمس طريق النور في متاهة الحياة ، وتبحث عن قيمة الإنسان في ظل الأنظمة العربية الفاسدة . وتعيش مواقف من الخوف والرعب وهي تسعى إلى تحقيق الحق في الحياة الكريمة ،سواء أ كان ذلك على الصعيد الاجتماعي أم على الصعيد السياسي . لأجل هذا كله جسدت الشخصيات أدوارها بشكل درامي واقعي ، وساهمت في تركيب الأحداث ونقل شهادة نقدية عن المجتمع الذي يصوره لنا الكاتب ، حيث تتفاعل الشخصيات فيما بينها ، وتنمو مع الأحداث لتخرج الصورة النهائية والبناء المحكم للمسرحية .
ويمكن القول إن المؤلف أخضع شخصياته هنا أيضا للتجريب حيث أخذ من المسرح التعبيري المتأثر بنظريات فرويد ما اصطلح عليه بالشخصية النموذج type ، أي الشخصية التي تطلق عليها أسماء رمزية مثل " الشاعر " و"الشرطي" ...وتمثلها هنا شخصية : القاضي الفاضل .
ومن المسرح الوجودي الذي تتميز فيه الشخصية بكونها صورة للإنسان الواقعي لا مجرد شخصية رمزية ، شخصية متأزمة الضمير ، نجد مجموعة من الشخصيات في المسرحية تحمل هذه الصفات كجعفر وعثمان وفل (بائع الحشيش ) وبوسة ( المغنية ) ....أما المسرح الطليعي الذي يهتم فيه المؤلف بتحليل الشخصية مثلما يحلل عالمها الخارجي ، فقد أخذ السيد حافظ منه نموذجين وهما : شخصيتا قراقوش وصلاح الدين الأيوبي .
وأغلب هذه الشخصيات تعرف نفسها بنفسها :
ابن مماتي : أنا اسمي ابن مماتي ..أبي كان من الأدباء الكبار والمسئولين الكبار في الدولة الفاطمية وفي أيام المجاعة كان الأطفال يقفون على بابه ويقولوا ماماتي..ماماتي..فسموه مماتي
جعفر : ومات
مماتي : أيوه
جعفر : حيدخل الجنة مع أبويا الله يرحمه . إن شاء الله لما يموت أبويا ..وبتشتغل إيه ؟ ( يشرب كأس )
ابن مماتي : وزير .1
يمكن إذن أن نعتبر شخصيات هذه المسرحية مجرد أدوات وظيفية لإبراز مواقف معينة وليس لخلق الأحداث فقط .
الزمن :
وإذا نظرنا إلى الزمن كمكون آخر من المكونات الجمالية للنص المسرحي ، نجد المؤلف يضفي عليه طابع الاستمرارية والامتداد ، فأحداث هذه المسرحية تدور في زمن قديم في التاريخ ، جديد في الواقع ( 750 ه – القاهرة الأيوبية) مادامت أسباب التغيير والتحول غير متوفرة . وهو زمن الديكتاتورية العربية القديمة في نشأتها والدائمة بمظاهرها ونتائجها . فمن خلال عودة السيد حافظ إلى حكاية تاريخية ( صلاح الدين الأيوبي ) يؤكد أن الإبداع المسرحي لا يتقيد بزمان معين . لأن ما يهمه من الزمن هو ما يحفل به من مواقف وليس ما يتضمنه من أحداث . ولهذا يمكن اعتبار هذا النص ممثلا لكل العصور (فلكل عصر قراقوشه ) إلى أن تطرأ متغيرات تاريخية جديدة !
وقد اعتمد المؤلف على تقنية الاسترجاع المسرحي "الفلاش باك " ، التي تحقق الفرجة الفانتازية . وهي تقنية تغريبية بالدرجة الأولى ، حيث يلجأ المؤلف إلى عملية التحيين actualisation لزمن صلاح الدين الأيوبي ويربط بينه وبين الواقع . وبما أن الزمن الحاضر هنا هو جزء من الماضي أو امتداد له ، فإن المؤلف لم يفرق بين الزمن النفسي في المسرحية وزمن الأحداث ، حيث إن التداخل بينهما عن طريق عنصري الاسترجاع والاستشراف (الذي سيوظفه في نهاية المسرحية ) ، يؤكد نوعا من الاستمرارية التاريخية التي تمتد عبر الزمن ، لعدم وجود تحول في الأنظمة العربية ، وفي هذا التمازج ما يؤشر على "اللازمن". وهنا يتجلى عنصر التغريب .
كما أن تقنية "الفلاش باك" الطاغية على المسرحية ، تساهم في تكسير الحدث وتحطيم الزمن المتتابع ، وهذا ما ساهم في إبعاد الملل عن المتلقي و تحقيق مشاركته في تركيب الأحداث .
وبذلك ظلت المسرحية تعبر عن آنيتها وتحتفظ بقيمتها .
وللكتابة السينوغرافية في هذه المسرحية دور في إقامة أزمنة أخرى تنتجها عملية التمسرح أو المسرحة théâtralité ، لهذا نجده يستغل مكونات أخرى في تحديد الزمن كالإضاءة مثلا :
ابن مماتي : جعفر باعني لقراقوش ! ..إزاي ..أفهم ..جه الزمان اللي المصري يسيب بلاده ويرحل بعيدا عنها ويهرب من حكامها الظلمة اللي هم مش مصريين ..آه يا بلادي .
( إظلام على ابن مماتي ..فيد إن على أفراح السوق والأهالي ) ( نرجس تقف جانبا في أول مستوى للمسرح مع جعفر )
جعفر : والله وبقيتي مراتي
نرجس : بقولك مش عيزاك تبص كده ولا كده للستات .1
المكان :
والمكان المسرحي هنا كإطار عام للأحداث ،تربطه علاقة وطيدة بالزمان . وهذا من خصائص المكان المسرحي عموما ، حيث يرتبط بكل العناصر المكونة للمسرحية كما ذهب إلى ذلك بول شاوول حين قال :" المكان المسرحي لغة مسرحية ، جزء من اللغة المسرحية ، جزء من الممثل ، جزء من الحرية ، جزء من الواقع ، المكان المسرحي هو الواقع المسرحي الذي يجسد الواقع العام "1. لذلك نجد أن تقنية "الفلاش باك " التي اعتمدها المؤلف هنا تشتغل على مستوى الزمان والمكان معا .
ورغم أن المكان العام هنا هو القاهرة الأيوبية ، إلا أنه يتخذ بعدا رمزيا ليصبح أي مكان يحتوي الظلم والاستبداد في الأرض العربية .
ويمكن الحديث هنا أيضا عن نوعين من الفضاء المكاني :
مغلق ويمثله :منزل القاضي عثمان –منزل عبود - الحانة – المطبخ –المحكمة –السجن - قصر صلاح الدين الأيوبي – قصر قراقوش ...
مفتوح ويمثله :السوق – الحارة – الشارع –مكان مهجور خارج المدينة –ساحة المدينة –الميدان
إن التداخل بين هذه الفضاءات ساهم في إثارة عنصر الإدهاش لدى المتلقي ، خاصة بعدما أخضعها السيد حافظ لتقنيات متنوعة كالمسرح داخل المسرح والتغريب والفلاش باك ..
اللغة والحوار :
وإذا اقتربنا من المستوى الأدبي للمسرحية ، نجد أن السيد حافظ قد اعتمد أساسا على اللهجة المصرية وعلى التعدد اللغوي . فهناك لغة القاضي الفاضل ( عثمان ) ، ولغة الصعلوك المتشرد ( جعفر )، ولغة الأديب المثقف ( ابن مماتي )، ولغة تاجر الحشيش (فل ) ولغة الحاكم الآمر( قراقوش )...الخ
كما وظف الأناشيد :
فل : هزمتهم كسرتهم ( يلقي قصيدة )
وجيت لمصر نورتها
وجيت لمصر عمرتها
وجيت لمصر ولعتها
( يظهر فجأة القاضي عثمان )
عثمان :وجيت لمصر خربتها
وجيت لمصر دمرتها
وجيت لمصر دفنتها ( هرج ومرج ) 1
وفي مكان آخر من المسرحية نجد :
حكايات الأراجوز
أفضل من أكل اللوز
كلها معاني وكلها أغاني .. 2
غير أن المؤلف لف كل هذه المستويات اللغوية في طابع شعبي من خلال حوارات مباشرة تطبعها التلقائية . والتلقائية كما نعرف تعد عنصرا مهما في المسرح الاحتفالي ، وهي أيضا خاصية تطبع مسرح السيد حافظ بصفة عامة ، فهو يضع لكل شخصية لغتها الخاصة فتأتي حواراتها صادقة وعفوية .
كما جاءت هذه الحوارات قصيرة ومحملة بالعديد من الأفكار الأيديولوجية ، مما يقربها جدا من المسرح الملحمي ، وهذا يؤكد البعد التجريبي في المسرحية .
وقد وردت أيضا مجموعة من المونولوجات تجسد حيرة الشخصيات :
جعفر : قراقوش ..قراقوش.. كل الناس بتقوم وتنام وتقول قراقوش جرى إيه ؟ فيه إيه ؟ ماله قراقوش ؟ مفيش راجل في مصر غير قراقوش ..الله هو ماعدش رجالة في
مصر ..بس اللي محيرني بصحيح إزاي صلاح الدين اختاره ..واشمعنى دا بالذات اللي اختاره النائب بتاعه يحكم البلاد ويتحكم في العباد . ..وأنا مالي ( يهرش في رأسه ) (يفتش جيوبه ويخرج ما فيها حيث لا يوجد أي شيء ) أنا مفلس ..وبعدين ..أعمل إيه ..(ينظر يمينه ويساره فيجد بيت القاضي ) ده بيت القاضي هانادي عليه وأزعجه (ينادي ) يا عم القاضي ، يا عم عثمان ..يا قاضي الجيزة .1
وقد صاغ المؤلف هذه الحوارات أيضا في أسلوب السخرية ، والكوميديا الصادمة . وهي سخرية مستهدفة ، فمنذ البداية يضع الكاتب تحت العنوان الداخلي للمسرحية توضيحا صغيرا : مسرحية كوميدية – الرؤية الثانية . والسخرية كما نعلم ، هي من أنجع الوسائل للتأثير في المتلقي ، فهي تكشف الحقيقة وتعبر عن الرفض للواقع المحبط ، بغية إجبار المتلقي على اتخاذ موقف من الواقع ، وعدم الاكتفاء بالانتظار السلبي :
قراقوش : بأمر قراقوش وزير ونائب السلطان صلاح الدين الأيوبي المعظم أمرت
بإحراق الكتب وطرد الكتاب وحرق المكتبات واعتقال الشعراء والأدباء .
لا صوت يعلو على صوت المعركة .
( ضوء على صلاح الدين ) ( بلاك على قراقوش )
صلاح الدين : إن المعركة الأساسية التي تواجه الأمة العربية هي الوحدة . وطن واحد
من المحيط إلى الخليج ..
( بلاك ) ( ضوء على القاضي الفاضل برواز 3 )
القاضي الفاضل : من القاضي الفاضل ...إلى السلطان المعظم صلاح الدين الأيوبي
..أما بعد فإن هذه الكتب هي روح الأمة والثقافة هي النور ، والعلم
هو نعمة الله علينا فاسمحوا لي بشراء الكتب .
قراقوش : بأمر قراقوش نائب السلطان المعظم صلاح الدين ..الكتابة هبابة ، والكتب
بها أفكار سوداء وحشو ولغو وتطرف في الدين والكتاب والشعراء ليس لهم
أي لزوم 2
إن عنصر الحوار في أي نص مسرحي ، يقوم بوظيفة مزدوجة : فهو يقوم بتبليغ الفكرة الرئيسية ، ويعرف المتلقي على الشخصيات والأحداث بما أن الأحداث في المسرح لا تروى من طرف الراوي بل تقع مباشرة على الخشبة .ولهذا سعى السيد حافظ من خلال عنصر الحوار هنا ، إلى جعل الشخصيات تحدد مواقفها من الأحداث ومن بعضها البعض ، وهي في الحقيقة مواقف المؤلف من العالم ومن قضايا الإنسان المعاصر بصفة عامة ، حيث اعتمد الكاتب على الحوار ، ساعيا بذلك إلى التغيير والرفض ، وتوعية الفئة المهمشة في المجتمع للخوض في العمل السياسي ولتحقيق الآمال والأحلام التي تراودها ( الحوارات التي دارت بين جعفر والقاضي في المشهد الأول وبين ابن مماتي وجعفر في المشهد الثاني ) وقد استطاع السيد حافظ من خلال الحوار بين شخصياته أن يبلغ رسالته .
- المستوى السينوغرافي :
يعتبر السيد حافظ من المسرحيين الذين تمكنوا من الجمع بين الكتابة والإخراج المسرحي ، وهذا ما يتجلى بوضوح في مسرحية قراقوش ، التي أرفقها بمجموعة من الإرشادات المسرحية التي ساهمت في تركيب الأحداث .
ويؤكد النقاد المحدثون أن فن المسرح ليس مجرد نص مكتوب ولا يأخذ أهميته من الحبكة الأدبية ، بل مما يضفيه عليه نص العرض من ملابس وديكور واكسسوارات وموسيقى وإضاءة ورقص ...وكل ما يسخره المخرج لإثارة وجدان المتفرج وعقله وجعله يشارك في العرض . يقول عبد الكريم برشيد عن الإخراج :"إنه كتابة سينوغرافية ...تكتب داخل الفضاء الذي تمثله الخشبة .وهو فضاء حسي يجسده المكان والزمان ...فهو حوار حسي مباشر مع أكثر من محاور واحد .فهو أولا حوار مع النص الأدبي ينتهي إلى إعطاء تركيبات إبداعية فيها شيء من الأدب والفكر ، وشيء آخر من الصناعة .وهو ثانيا حوار مع الممثل ...وهو ثالثا حوار مع الجمهور ، فهو شرط الإبداع المسرحي ."1
نفس التصور نجده عند الباحثة الفرنسية آن أوبرسفيلد ، التي تعتبر المسرح ممارسة حية فوق الخشبة ، بفضل خضوعه للمكونات السينوغرافية والمؤثرات الصوتية والضوئية والديكور وغير ذلك من عناصر الإخراج . فاجتماع هذه العناصر مع بعضها هو الذي يمنح الحياة للنص المسرحي ويخرجه من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل .بل ذهب بعض النقاد إلى اعتبار النص مجرد عنصر من المكونات المختلفة والمتكاملة التي تشكل بنية العرض المسرحي . وهذا نابع من خاصية تتميز بها الكتابة للمسرح تسميها الباحثة آن أوبرسفيلد "بالنص المثقوب " ، أي أن النص مليء بالفجوات المقصودة التي يترك المؤلف أمر ملئها لمختلف الفنانين والفنيين المشتغلين في إنجاز العرض ( المخرج – الممثلون – مصمم ومنجز الإنارة – مصمم ومنجز الفعاليات الصوتية ...) غير أن السيد حافظ في هذه المسرحية ، لم يترك هذه الفجوات ، وحاول جاهدا أن يوازي بين نص التأليف ونص العرض .بل أحيانا يعطي الأهمية لنص العرض أكثر من نص التأليف* . حيث يظهر من خلال الإرشادات المسرحية العديدة في هذه المسرحية أن السيد حافظ يولي عناية فائقة بعرض مسرحيته ويملك وعيا قويا بفن الإخراج المسرحي . فالعرض المسرحي هو فعل تواصلي بكل ما في الكلمة من معنى ، لذلك اعتبر الإخراج كتابة جديدة للنص .فالإرشادات المتعلقة بالتشخيص ( يهرش رأسه ) ( يفتش جيوبه ويخرج ما فيها حيث لا يوجد أي شيء ) ( يدخل إلى الحانة وهو يتمايل ويرقص ويغني ) أو بالكلام والتنغيم الصوتي ( يضحك شاوور ضحكة هستيرية... - يهمس بصوت مرتفع لزنبيل ..- بلهجة قاسية... –يبكي بكاء كاريكاتوريا )أو الحركة داخل الفضاء : ( هرج ومرج وجري ..قراقوش ينحني تحت المائدة ) أو الماكياج (رجل في السبعين له ذقن مسبوغة بالأسود ..) أوالإرشادات الأخرى المتعلقة بالفضاء ( الاكسسوار-الديكور-الإنارة-الموسيقى-والمؤثرات الصوتية ) ، كلها تسهم في ربط التواصل مع المتلقي .
من هنا يمكن اعتبار السيد حافظ من المؤلفين الجادين الذين يعتبرون العرض من أهم مكونات العمل المسرحي .

الفضاء :
للفضاء المسرحي في هذا النص أهمية كبرى وهي تعكس الاتجاه التجريبي للسيد حافظ . فقد استغل المؤلف فضاء الحلقة العربية كما كان يفعل المداح والراوي والحكواتي :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* انظر مثلا الصفحات : 9-24-35











جعفر : ( يهرب منها ) ( ينادي ) قرب ..قرب..قرب تعال وشوف ..الحكاية
الغريبة ..حكاية الأراجوز ..الحكاية العجيبة..
حمزة : عجيبة العجايب
أيوب : غريبة الغرايب .
يوسف : حكاية الفاشوش في حكم قراقوش .
جعفر : قرب ..قرب
( يتجمع الناس ) ( تقترب نرجس من أبيها )
جعفر : ......موسى نبي ..عيسى نبي ..محمد نبي ..وكل من له نبي يصلي عليه .
( الناس تتجمع )
المجموعة : عليه الصلاة والسلام .
جعفر : سقفة لوجه الله ..( يصفقون ) وكمان سقفة علشان حبيب الله رسول الله
( يصفقون ) وكمان سقفة للسلطان صلاح الدين الأيوبي كلنا فداه (يصفقون)
بص وشوف على المكشوف .1
إلى جانب فضاء الحلقة ، قسم السيد حافظ الركح إلى ثلاثة مستويات ، حيث يدل كل مستوى على حالة معينة :
في اليمين مستوى أول : تجلس بوسة مطربة ومغنية ..تغني ياللي الهوى رماك .
في اليسار مستوى أول : يجلس أبو شنب بريمة . ومعه ثلاث فتيات .
في اليمين مستوى ثاني : يجلس فل تاجر الحشيش ..وبجواره ابن مماتي .
في اليسار مستوى ثاني : يجلس زنبيل تاجر العبيد ومعه بعض الجواري .
في المستوى الثالث : ثلاثة براويز ، برواز ذهبي في اليمين ( لصلاح الدين ) برواز فضي في الوسط ( لقراقوش ) برواز أرابيسك الثالث ( للقاضي الفاضل2
وهذا التقسيم يظهر أهمية الفضاء المسرحي عند المؤلف . كما استعان المؤلف بالإنارة للفصل بين الأركاح الثانوية داخل الركح الأساسي .
( فيد أوت على الحانة ) ( ضوء على صلاح الدين في المستوى الثالث )3
الديكور :
يعتبر الديكور في المسرح الحديث أداة تعبيرية ولغة تعبر عن الحالة النفسية التي تعيشها الشخصية في المسرحية . وهو هنا رغم بساطته ، يؤدي وظيفة تعبيرية أساسية في النص ، فهو ليس ديكورا ثابتا بل يتغير حسب المشاهد ، و يمكن أن نلمس البعد الاحتفالي الذي أعطاه السيد حافظ للديكور باعتباره أداة لخلق التواصل مع المتلقي :
(تابلوه استعراضي الكلمات تقول : (حلق حوش رايح جاي عمك قراقوش ) –قضبان
سجن – ميزان العدل المقوس وظاهر الاعوجاج—لافتة كتب عليها بخط جميل " محكمة قراقوش " مجموعة قدور في المطبخ – شجرة في مكان مهجور – ديكور السوق ...)
والديكور هنا لا يستنسخ الواقع ولكنه يعبر عنه بواسطة الرمز ، ليساهم في إغناء الفضاء والمكان وتحديد الحدث ، وكشف الجانب النفسي للشخصيات .
الاكسسوار :
والاكسسوار من العناصر المرئية في العرض المسرحي ، ويتميز يالتغير حسب المواقف والأحداث لكونه يلعب دور الوساطة بين النص المسرحي والمتلقي .وتحمل الاكسسوارات التي تحفل بها هذه المسرحية عدة وظائف دلالية . ففي المشهد الثاني نجد في الإرشادات المسرحية ما يلي :"برواز من الذهب لصلاح الدين الأيوبي وآخر من الفضة لقراقوش وآخر من الأرابيسك للقاضي الفاضل ".
فكل برواز هنا ( الإطار الذي توضع فيه الصورة أو اللوحة ) يدل على قيمة صاحبه . أما الاكسسوارات الأخرى ( زجاجة خمر–كتب – كراسي – قدور كبيرة وصغيرة – القفة –قوس وسهم –صندوق – حبل – أقنعة – عرائس خشبية ...) فهي أيضا تلعب دورا وظيفيا في العلاقة بين المسرحية والجمهور .فزجاجة الخمر التي استعملها في المشهد الثاني - مشهد الحانة - والتي جمعت الأديب والوزير ابن مماتي مع المتشرد والصعلوك جعفر، تبرز حالة اليأس والإحباط التي يتساوى فيها كل أفراد المجتمع أمام آلة السلطة الجبارة والظالمة . أما الكراسي فترمز للسلطة ( كرسي كبير للسلطان صلاح الدين) (الكرسي خال ..)1. فالسلطان صلاح الدين موجود كحاكم رسمي للبلاد ولكنه غير موجود كحاكم فعلي ، لأن هذه المهمة يقوم بها قراقوش .
الإضاءة :
تعتبر الإضاءة المسرحية من أهم المكونات السينوغرافية في المسرح الحديث . وهي لم تعد مجرد وسيلة للإبهار مثلما كانت عليه في المسرح الكلاسيكي ، بل أصبحت وسيلة جمالية إيحائية ورمزية ، تهدف بالأساس إلى كشف الحالات النفسية للشخصيات . كما أن السيد حافظ استطاع أن يخلق منها لوحات فنية أضفت جمالية على نص العرض :
( ضوء فيد أوت ..إظلام تدريجي مع أغنية واستعراض المطبخ ) ص 44
( عند انتهاء الاستعراض ..إضاءة فيد أوت في ركن اليسار تظهر بقعة ضوء يظهر فيها ابن مماتي وهو يقرأ الرسالة ) ص 92 .
( إظلام على ابن مماتي ..فيد إن على أفراح السوق والأهالي ) ص 92
ومما لا شك فيه أن الإضاءة لعبت دورا أساسيا في تقنية الفلاش باك التي اعتمدها المؤلف في مسرحيته هذه ، مثلما يتبين في الصفحتين 18و19 مثلا من المسرحية ، من خلال التنقل بين الإظلام والإنارة ، لتجسيد موقف أو حالة أو لقطة زمنية محددة . فمعظم أحداث النص تجسد عن طريق الفلاش باك مما يعني كثرة التنقل بين بقع الضوء والظل ، فتكون الإضاءة مساهمة بشكل فعال في تجسيد الأحداث وتركيبها .ويلعب هذا التغير المفاجئ والسريع دورا في عملية الإدهاش ونزع المتلقي من حالة الإيهام الأرسطي ليظل عقله منتبها إلى الأحداث . وهذه العملية نجدها كذلك في المسرح الاحتفالي .مما يؤكد البعد التجريبي في المسرحية من حيث نص العرض أيضا .
و تقوم الإضاءة عامة بدورين رئيسيين :دور تقني ودور تعبيري جمالي .ويتجلى الأول في الإعلان عن بداية العرض ونهايته ، وفي الفصل بين اللوحات ، وتعيين فضاء اللعب والتركيز على شخصية بعينها أو على جزء منها . أما الدور الثاني فيتجلى في إثارة الانفعالات باستعمال الألوان وخلق الجو العام بضعف الإضاءة أو قوتها أو تنوعها . وتوليها التعبير نيابة عن الممثل والتمييز بين الوقت والزمان .وقد حرص السيد حافظ على إبراز هذين الجانبين معا في الإرشادات المسرحية ، فلم يترك للمخرج غير التنفيذ . حيث ينهي المشاهد بالـ"فيد أوت " ( نهاية المشهد الأول ) أو بـ"بلاك أوت "( نهاية المشهد الثاني ) أو "ضوء فيد أوت ..إظلام تدريجي" في نهاية المشهد الثالث ..وهكذا ، وكما أشرنا في البداية يحرص السيد حافظ على كتابة نص العرض حرصه عل نص التأليف .
التشخيص:
يكاد الممثل يكون هو المكون الوحيد الذي لا يمكن الاستغناء عنه في النص المسرحي. إذ يمكن للمنظومات الدالة أن تغيب ( كالاكسسوار – الموسيقى – الديكور – الماكياج- الإنارة-الملابس ...) في النص المسرحي ، دون أن يؤثر ذلك على عمق العمل المسرحي . بل ذهب الفنان والمخرج المسرحي الإنجليزي بيتر بروك إلى حد القول : "أستطيع أن أتخذ أية مساحة فارغة وأدعوها خشبة مسرح عارية . فإذا سار إنسان عبر هذه المساحة الفارغة في حين يرقبه إنسان آخر ، فإن هذا كل ما هو ضروري كي يتحقق فعل من أفعال المسرح .."1
فالممثل يعتبر الوسيلة الأولى التي يتم عبرها التواصل مع الجمهور ، وهو الذي يترجم النص عبر كلامه وحركاته ويجسد الفعل المسرحي والأحداث . ولهذا كثر الحديث في المسرح الحالي عن الجسد كلغة مسرحية ، ودور الطاقة الجسدية للممثل في إنجاح العرض المسرحي ولم يعد دوره مقتصرا على استهلاك النص مثلما كان عليه الأمر في المسرح التقليدي ،بل أصبح أداة لكشف الواقع وتناقضاته ، وبالتالي لم يعد يسعى إلى التوحد مع الشخصية بقدر ما يحاول تنبيهنا إلى الفرق بين الواقع والحقيقة .وأصبح الممثل مبدعا ثالثا في العرض المسرحي (بعد المؤلف والمخرج ) .إذ يطبع الشخصية بطابعه الخاص ويشحنها بكل ما يملك من طاقة جسدية وفكرية وإبداعية .
من هنا يبدو أن الممثل في مسرح السيد حافظ لا بد أن يكون مبدعا . وفي هذه المسرحية يقوم عدد من الممثلين بأدوار مختلفة على غرار ما نجد في المسرح الملحمي ، فجعفر يؤدي دور الصعلوك المتشرد كدور رئيسي في المسرحية ككل ، لكن السيد حافظ يسند له أيضا دور امرأة في المشهد الرابع كي يتمكن من لقاء وجدان ( يدخل جعفر في زي امرأة ..يرتدي طرحة ..يحمل قفة ) ودور امرأة أخرى " سمارة " في حكاية " الفاشوش في حكم قراقوش"التي يقدمها "خيال الظل"في المشهد السادس .
كما أن الحركة الجسدية تقوم في هذه المسرحية مقام اللغة عند الممثل ، وهذا ما نجده في العديد من الإرشادات المسرحية ، مما يبين أهمية دور الممثل في مسرح السيد حافظ بصفة عامة ( يظهر قراقوش في خيال الظل فوق حصان يضرب الناس ..كلما ضرب شخصا ضربا مبرحا ظهر على المسرح ( لايف ) حيا مجسدا أو هو مصاب ..حتى يمتلئ المسرح بالبشر المصابين والمجروحين )1 . فأكيد أن هذه الإشارة إلى حركات الممثلين تعكس الفكرة المحورية للنص المسرحي هنا وهي إبراز استبداد قراقوش وظلمه للناس وجبروته . ونفس الفكرة يجسدها الممثلون من خلال الإرشاد المسرحي الآتي ( عندما يجري الناس أطفالا وشيوخا ونساء في أرجاء المسرح ..يظهر قراقوش وهو قادم من خيال الظل محمولا على ظهور الناس ..وكلهم منحنون ليدوس عليهم أمامنا ويقول :)2
من هنا نلاحظ أن السيد حافظ يهتم بحركة الممثلين ويعتبر جسد الممثل لغة رئيسية لمخاطبة الجمهور(وهو يرتعد وهو يعدل السراويل ..يرتعد ..يسقط منه السراويل ..يرفعه بسرعة)3
( يظهر رجال الشرطة ويظهر كرم رئيس الشرطة ..الناس تجري وتختبئ في كل مكان )
كرم : ( يفتح كرم ورق مرسوم في يده ) يا أهالي مصر المحروسة افرحوا وهللوا . رجع
قراقوش .
( لا أحد يظهر ..لا أحد يفرح ...ينظر إلى جنوده )4
فهذه الإشارة الأخيرة تبرز رد فعل الناس لدى علمهم بإطلاق سراح قراقوش ويلمس الجمهور تذمرهم ورفضهم للخبر دون أن ينطق أحد من الممثلين . وهنا تكمن أهمية التشخيص . والكاتب يعتمد هنا أيضا على التجريب ، سواء من خلال اللجوء إلى المسرح الملحمي بتغيير الأدوار بالنسبة للممثل الواحد ، أو إلى المسرح الاحتفالي بالسعي وراء الاندماج المنفصل الذي ينبه الممثل من خلاله إلى أنه يمثل فقط ولا ينقل الحقيقة وفي نفس الآن يتقن دوره إلى درجة التماهي ، فيحقق بذلك الاندماج المنفصل .كما لجأ المؤلف أيضا إلى مسرح القسوة الذي يقوم على الحركة والأصوات والكلمة والألوان والصراخ ، وهذا ما تجلى في العديد من الإرشادات المسرحية ومنها ما أشرنا إليه سابقا . فمسرح القسوة أو المسرح الآرتي يعتبر العرض المسرحي كما جاء في كتاب " المسرح ونظيره " لأنطونين آرتو، عبارة عن لوحة تعبيرية متحركة ، وتجسيدا
للفعل الدرامي الذي يعانق رحابة مكان العرض كلغة مرئية .وفي هذه المسرحية نجد : الصراخ والضرب والضحك الهستيري والبكاء الكاريكاتوري والقتل ...الخ وكل ما يعتمد على الطاقة الجسدية للممثل .
خاتمـــة :
لقد سخر حافظ مسرحه من أجل الاهتمام بالقضايا المصيرية للإنسان ، ولأجل ذلك وجدنا في هذه المسرحية مادة غنية على صعيد القضايا المعالجة ، كالظلم والاستبداد والفقر والبطالة والفساد وتعاطي المخدرات وغير ذلك مما نجده في جميع المجتمعات العربية .
فمسرحية "قراقوش والأراجوز والحرفوش" مسرحية هادفة ، تعكس واقعا عربيا مترديا وتكشف المسكوت عنه في التاريخ العربي . وهي تمتح من ينابيع متعددة في فن المسرح عامة فقد اصطبغت بألوان من الاحتفالية والملحمية ومسرح القسوة ، في تركيب وانسجام تام ، ظهر ذلك في النص التأليفي ، من خلال المكونات الفكرية والجمالية سواء من خلال تناوله للوحدات المسرحية الثلاث : الحدث والزمان والمكان ، أو من خلال تشكيله للشخصية أو التيمات المطروحة ومن خلال نص العرض . هذا النص الذي أولاه السيد حافظ نفس عنايته بنص التأليف ، حيث تمكن من خلال الكتابة السينوغرافية أن يضفي جمالية وفنية وحيوية على المسرحية ، على مستوى الديكور والفضاء والتشخيص والاكسسوار وغير ذلك من المكونات السينوغرافية ، ويسبغ عليها ما انتقاه لها على سبيل التجريب من مختلف الاتجاهات المسرحية .
المصادر والمراجع والمجلات المعتمدة
السيد حافظ – قراقوش والأراجوز والحرفوش – منشورات اتحاد الكتاب – ومركز الحضارة العربية – الطبعة الأولى القاهرة 2001
2-السيد حافظ-الأشجار تنحني أحيانا ( تسع مسرحيات تجريبية)–مطبعة الفتح–القاهرة 1992
3-د. محمد عزيز نظمي -السيد حافظ بين المسرح التجريبي والمسرح الطليعي – سلسلة رؤيا للدراسات المسرحية - مركز الوطن العربي للنشر والإعلام– 1989
4-د.مصطفى رمضاني– قضايا المسرح الاحتفالي –منشورات اتحاد كتاب العرب-1993
5-عبد الكريم برشيد – حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي –دار الثقافة –الدار البيضاء-الطبعة الأولى 1985
6- بول شاوول – المسرح العربي الحديث ( 1976-1989 ) رياض الريس للكتب والنشر – لندن –1989 .
7-بيتر بروك –المساحة الفارغة –ترجمة فاروق عبد القادر–سلسلة كتاب الهلال-ع 432 ط 1986 .
8- مجموعة من المؤلفين – المسرح العربي بين النقل والتأصيل – سلسلة كتاب العربي – الكتاب الثامن عشر – يناير 1988.
9- مجلة آفاق – مجلة اتحاد كتاب المغرب –مطبعة دار النجاح الجديدة – الدار البيضاء - ع 3 – 1989
10 مجلة المدينة –ع 6 – يونيو 1981

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق