الاثنين، 13 أبريل 2009

مسرحية (اشاعة) ن

الخطاب النفسي في مسرحية امرأتان للسـيد حافظ
أ.ليلى بن عائشة
لم أجد لدراسة هذه المسرحية أفضل من التركيز على بنية الخطاب النفسي ،لأنها مسرحية مفعمة بل وطافحة بهذا النوع من الخطاب،الذي أراد الكاتب أن يقول من خلاله الكثير ،مما سنحاول الوقوف عليه عبر هذه القراءة المقتضبة،وسأستعين فيها بكل ما من شأنه أن يبرز لنا قيمة وتأثير هذا النوع من الخطابات في المتلقي قارئا كان أم متفرجا مستكنهة لب (امرأتان).ولنبدأ من حيث يجب أن تكون البداية ،بمصطلح الخطاب الذي لا يختلف اثنان في أنه «كل كلام تجاوز الجملة الواحدة سواء كان مكتوبا أو ملفوظا »(1).
ويعرفه "بنفنست"بأنه «الملفوظ منظورا إليه من وجهة آليات وعمليات اشتغاله في التواصل..»(2). وبشكل أدق فالخطاب عنده هو«كل تلفظ يفترض متكلما ومستمعا وعند الأول هدف التأثير على الثاني »(3).
ولا شك أن "السيد حافظ" قد اختار الخطاب النفسي والاجتماعي وصبه ضمن القالب المسرحي ليكوّن مرسلة معينة لها بداية ولها نهاية كمتتالية لسانية، ولكنها بالمقابل لا تنتهي لأنها تصل إلى عدد لا حصر له من المتلقين القراء ممن ستقع هذه المسرحية بين أيديهم ،وعدد آخر من المتلقين الذين ربما يعدون أكثر حظا من حيث حصولهم على متعة القراءة للمسرحية من جهة ومتعة المشاهدة لها كعرض من جهة ثانية.وإذا ما عدنا إلى تعريف الخطاب من وجهة نظر السيكو-لسانيات فإنه عبارة عن«متتالية منسجمة من الملفوظات»(4)،وهذا الانسجام لا يتأتى لنا هكذا ،وإنما بتضافر مجموعة من العناصر والتي يتحدد وفقها هذا التناسق ونجملها فيما يلي:
«1-إن الخطاب يفترض تعالقا يتم بواسطة الفعالية التلفظية بين مجموعة من الملفوظات.هذه الملفوظات لا يجب اعتبارها مبنية سلفا وأن علينا أن نربط بينها ،...
2-لكن الطابع السابق ليس كافيا فالخطاب هو أيضا عملية مستمرة:إنه يجري في الزمن بشكل موجه.وهذا الطابع الموجه ينعكس داخل الملفوظ ذاته من خلال البنية:علاقات الموضوع بالمحمول ... وهكذا يتجلى الخطاب كتتابع تحويلات تتيح الانتقال من حالة إلى أخرى..
3-وأخيرا أن التتابع لا يتم بأي وجه ،إنه يأخذ طابع التصاعد في اتجاه هدف ما.وتبعا لذلك تغدو للخطاب فعلا قصدية.ومن.. هذا العنصر الأخير يبدو المنطلق السيكولوجي...ومن خلال ترابط هذه الملاحظات يتحقق الخطاب كفعل منسجم »(5) .
وبما أننا بصدد تقديم قراءة في مسرحية وجب أن نتسلح بما يسعفنا في إنجاز ذلك ،خاصة وأننا سنقدم قراءة في مسرحية لكاتب لم نتعود منه كتابة أي كلام ،بل إنه كاتب برهن من خلال أعماله بأنه ينتقي ما يكتب،وعما يكتب بعناية شديدة ،بل إنه ينتقي أيضا لـمن يكتب«ألم يقل هنري جيمس،في هذا المعنى،بأن..كل مؤلف يمكن أن..يبتكر..قارئه بنفس الطريقة التي يبتكر بها شخصياته»(6).كذلك هو "السيد حافظ" يبتكرنا ويثير بكتاباته فينا روح القراءة الفاعلة والمثمرة،ثم إن استراتيجية الكتابة لديه تحفزنا عبر بناها على المساهمة الجادة والمتأنية في بناء المعنى وإنتاجه.
إن القراءة الحقيقية هي تلك التي تسعى سعيا حثيثا إلى الإفصاح عما يريد الكاتب قوله فـ«القراءة حرية لا تمنح الوجود ولا تأسره ،وخاصة لما يتعلق الأمر بوجود وعي الكاتب في النص،أي ما أراد أن يقوله ،لكن حرية القراءة أكثر شساعة من ذلك إنها تهتم بما لا يريد الكاتب قوله أيضا، هكذا تكون القراءة التحاقا بنية الكاتب، التحاقا بعالم الكتابة كما هو مهيأ أصلا لإعادة صوغ ولإعادة نسج، وفق مشترطات التفاعل ،وفي أفق يجعل القارئ «لا مستهلكا للنص بل منتجا له» ..حيث تتجه القراءة صوب هدفها مسترشدة بأفقها النظري والمعرفي ،مستندة إلى ذاتها المؤسسة »(7).
إن القارئ الفعال –في رأيي- هو ذاك الذي يحاول أن يبني علاقة متينة مع النص الذي هو بصدد قراءته،بل إن«علاقة القارئ بالنص..هي علاقة مزدوجة:من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص.هنا يتأسس الحوار والتبادل،وتتبلور تلك الجدلية اللانهائية..حيث يكون النص متوفرا –بالضرورة- على استراتيجية ينبغي للقارئ أن يستثمرها لا لفهم النص [فحسب]بل لبناء معناه المتعدد»(8). إننا إذ نورد هذه المفاهيم إنما لنسترشد بها ولتكون دليلنا إلى قراءة نتوسم أن تكون فاعلة ومنتجة .
تتكون مسرحية (امرأتان) "للسيد حافظ"من فصل واحد،ومن عدد محدود من الشخصيات أبرزها وأهمها على وجه الخصوص :
-شخصية (سنية).
-شخصية (هدى).وتضاف إليهما شخصية (سليمان) وهي أقل بروزا منهما .
فإذا حاولنا في البداية أن نحدد طبيعة التواصل بين الأطراف الفاعلة والمشاركة في الخطاب المسرحي لـ(امرأتان)فبإمكاننا التمثيل له بالشكل (1)–مع العلم أنني لم أشاهد عرض هذه المسرحية،ولكن انطلاقا من اطلاعي على بعض مما كتب عنها في الجرائد التقطت على الأقل أسماء الممثلين الذين أدوا أدوار الشخصيات التي اقترحها الكاتب وسيتم التركيز في هذا المخطط على كل الأطراف-.
يتشكل المخطط من قطب الإرسال الذي يتمثل في :المؤلف "السيد حافظ "من جهة ،والمخرج "محمد سمير حسني" من جهة أخرى، واللذان يرسلان إبداعهما عن طريق قطب آخر؛ فبالنسبة للمؤلف قطب إرساله يتمثل في الشخصيات التي ابتكرها والتي أخذت على عاتقها عبء تطوير الأحداث وهي: سنية، هدى،وسليمان.وبالنسبة للمخرج فالقطب الذي يعتمد عليه في الإرسال –بالإضافة إلى ميكانيزمات الإخراج المتنوعة إضاءة،ديكور،..وغيرها– هم الممثلون:ماجدة منير،آمال رمزي،ورضا عبد الحكيم.ويتمثل قطب التلقي في الشخصيات نفسها باعتبار تبادل الحوار،والممثلون أنفسهم لذات السبب هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد الجزء الأهم في قطب التلقي،هو المتلقي الذي يتمثل في القراء من ناحية ومن بين هؤلاء ليلى بن عائشة –وهذا النوع من المتلقين يخص الكاتب فقط أي أن علاقتهم تكون علاقة مباشرة مع الكاتب عن طريق المسرحية المكتوبة- والمتفرجون من ناحية ثانية وهؤلاء علاقتهم في التلقي تكون مزدوجة مع الكاتب باعتباره مؤلف المسرحية،ومع المخرج باعتباره المبدع في مجال إخراج هذا العمل،وإن كان هنالك عدد كبير ممن يساعدونه في إنجاز هذه المهمة، ويدخلون ضمن قطبي الإرسال والتلقي تبعا لطبيعة العلاقة التي تجمعهم مع الآخرين، وإن كان ذلك كله ضمنا (أي يستشف فقط).
قطب الإرسال قطب التلقي


المؤلف الشخصية الممثل(ة) الممثل(ة) الشخصية المتلقي
(السيد حافظ) سنية ماجدة منير ماجدة منير سنية القارئ
المخرج هدى آمال رمزي آمال رمزي هدى ( ليلى بن
محمد سمير حسني سليمان رضا ع/الحكيم رضا ع/الحكيم سليمان عائشة )
ت تواصل تناظري=ذوات حقيقية المتفرج
تواصل لا تناظري=ذوات غير حقيقية
تواصل تناظري=ذوات حقيقية
شكل(01)
وسنحاول فيما يلي الوقوف على طبيعة هذا التواصل على الأقل بيننا كقراء وبين الكاتب "السيد حافظ" وتحديدا عبر عمله المسرحي هذا لنكشف النقاب .
إن السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو لماذا (امرأتان) وليس (رجلان) ؟ في اعتقادي أن الكاتب أصاب في اختياره للفئة التي سيسبر أغوارها ويكشف عن دخيلتها؛فالمرأة بدون شك مخلوق ضعيف مهما تظاهرت بالقوة ،ومهما توصلت إلى أن تكون في مركز قوة ،فطبيعتها التي فطرت عليها هي جنوحها الكبير إلى العاطفة ،وتميزها بالرقة اللامتناهية، والهشاشة التي تصل إلى حد الانكسار مع أول صدمة ،وإن كانت تستطيع أن تقف مجددا وتستعيد الثقة بنفسها مرة وأخرى ..ولكن إذا توالت النكبات وازدادت الخيبات وكثرت المآسي، فإن أحسن حال تكون عليه هو الحياة بدون هدف محدد، وإن توفر هذا الهدف فهو لا يعدو أن يكون حماية نفسها، وأقرب الناس إليها،وغالبا ما تلف حياتها غمامة من الاكتئاب الدائم وعدم الوثوق بأي شخص،ولعل شخصية (سنية) تعكس لنا ذلك بصدق، بل إنها صورة لآلاف الفتيات اللائي لم يسعفهن الحظ في بناء أسرة ؛ فقد انكسرت أحلامها على عتبة باب الخطوبة التي لم تتم،وانكمشت على نفسها وانطوت بعد توالي المآسي عليها، ولم تعد تثق بأي شخص، وتسعى جاهدة إلى نقل أحاسيسها إلى من حولها ،وأن تقنع أختها (هدى) بأفكارها. إن(سنية) تحاول أن تمسح الحقيقة المرّة والفرحة التي لم تكتمل من ذاكرتها، ولكن (هدى) تواجهها بالحقيقة وتعيدها إلى عالم الواقع ،داعية إياها ضمنيا إلى التخلص من تلك النظرة السوداوية التي تلف حياتها بأكملها ولكن دون جدوى.
«سنية: أنا أختك الكبيرة وافهم الناس أحسن منك. هدى:إوعي تكوني لسه شايلة من أخوها. سنية:أخوها...أخوها دا يطلع مين... هدى:عندك.. ما تغلطيش...لأن دا في يوم من الأيام كان هيبقى جوزك. سنية:أنا رفضته. هدى:هو ما جاش يوم الخطوبة وانا فاكرة. سنية:أصلا أنا كنت رفضاه. هدى:لأ..انتي كنت مستنياه ولبستي الفستان الأزرق وحطيتي الوردة البيضا ورحتي الكوافير بالأمارة وفاكرة..بالأمارة كعب الجزمة العالي انكسر ليلتها...اتشأمتي.سنية:دي تفاصيل من خيالك أنا ما كنش عندي فستان أزرق ولا وردة بيضا ولا..».(المسرحية. ص.9).
ورغم الضغوط النفسية التي تمارسها (سنية) على (هدى) إلا أن هذه الأخيرة تأبى أن تنقاد لها
«سنية: الناس مصالح...كويس انك عرفتي الحقيقة دي..كويس انك كسرتي الصورة المثالية من ذهنك..كويس انك فهمتي ان العالم اللي حوالينا ما بيرحمش ولا بيجامل. هدى:أد كده بتكرهي الناس ؟.سنية: من عمايلهم.هدى:ليه؟.سنية:تفتكري الناس عملت إيه ساعة أبوكي ما مات؛طمعوا في المصنع وسرقوه بأوراق مزورة..شريك أبوكي أخذ المصنع وسابنا..الفلوس يا دوبك اللي في البنك بنعيش بيها والبيت.... هدى:... سنية:ليه..لأن الناس تحب تشوف الدم وتشوف الإنسان وهو مصلوب وبينزف وهما بيبتسموا ويقزقزوا اللب؟؟.هدى:والسماح فين؟؟.سنية: السماح كان زمان .. لما كان الواحد بيسأل عن جاره هو نام جعان ولا شعبان..فيه حد بيسأل عننا؟ .هدى:لأ. سنية: لأ ليه ؟. هدى:لأن ما لناش مصلحة مع حد دلوقت لا شركة ولا فلوس ولا مراكز...الناس بتتصل بالناس علشان كده.سنية :الناس يا حبيبتي مش ملائكة.هدى: بس الخير لسه يا سنية في الناس». (المسرحية ص. 20/21).
وتحاول (هدى) التعلق بأي قشة أمل،ليزهر هذا الأمل بأشياء جميلة يكون لها وقعها في حياتها،وإن كانت هذه الأشياء زائفة لافرق بينها وبين السراب؛ فالمرأة أحيانا وفي أحلك الظروف تسعى إلى خلق الحب والدفء في حياتها حتى وإن كان ذلك عن طريق الحلم،فحينما تنضب مشاعرنا من الحب وتجف مآقينا من الدموع التي تغسل ذواتنا وتطهر أرواحنا من أدران كثيرة لطالما علقت بها، حينما تضيق السبل بنا ،نسعى جاهدين لخلق الأشياء الجميلة والمشاعر الرقيقة التي نتعطش إليها في حياتنا، فبالحلم يعاود الإنسان في كثير من الأحيان بناء نفسه،واسترجاع ذاته الضائعة في زخم الحياة وترهاتها المادية التي تقبض على أنفاسه ،وتحاول اغتيال ما تبقى من إنسانيته العذبة بكل ما فيها من أحلام ومشاعر وعواطف ،وخيبات وانكسارات.هذا ما أدركته من خلال هذه المسرحية وربما هذا ما أراد "السيد حافظ" قوله ،ولقد نجح في تصوير مشاعر (سنية)،و(هدى) «سنية:فيه إيه ؟.هدى:ولا شيء أنا قلقانة وخايفة أنام مش عارفة ليه ؟؟..هدى:...أختي إفرضي خالك قال إنه جاي علشان ياخذنا معاه. سنية:سبق وقلت لك ..أنا مش هاسافر معاه ولا مع حد خارج البلد دي...هدى:يمكن احنا محتاجين نشوف الدنيا. سنية:الناس هما الناس أفعالهم واحدة...شرهم واحد..خيرهم واحد.... هدى:بس الدنيا هناك غير هنا؟...سنية:كل شيء عندي متساوي... الخير... الشر... الخيانة.. الليل.. والنهار.هدى:معقولة..إيه اللي حصلك؟؟.سنية:أنا لا أسمح لخالك ولا لأي راجل يدخل في حياتي مرة ثانية ويدمرها ويدمرني.....بس احب أقولك شيء ..مفيش حد هيخلي بالو منك إلا أنا ومفيش حد هيخلي بالو مني إلا انتي ».(المسرحية.ص.22/23).
وأجدني مستغربة إلى حد ما من دقة تصويره (الكاتب) ،لأنني أعتقد أن المرأة الأديبة ستكون ربما أكثر دقة في وصف مشاعر امرأة مثلها ،لأن لكلتيهما التركيبة نفسها،وإن لم تكن لهما التجربة ذاتها.لكن ينجلي هذا الغموض إلى حد ما،حينما نستحضر معلومة تخص الكاتب وهي أنه حاصل على دبلوم دراسات في علم النفس، وهذا ما ساعده ربما على النفاذ إلى أعماق الشخصيات واختراق ذواتها،حتى الأقل منها ظهورا.ولكن مع هذا أضيف أن تصويرا بهذا العمق لا يتاح إلاّ لكاتب هو إنسان بالدرجة الأولى وملتحم بالناس إلى حد كبير بالدرجة الثانية ،وهذا الالتحام يصل إلى حد الذوبان وهذا ما تعودناه في كتابات"السيد حافظ"؛ فالإحساس بالآخرين سلعة نادرة في هذا العصر،وقد تجد الكثير من القارئات سلواهن في قراءة حالة مشابهة لحالتهن،فحينما يعجز الإنسان عن إيجاد من يصغي إليه فالعزاء الوحيد يكون في إيجاد من يروي له مأساة مشابهة لمأساته،فيسلي همومه بأشجان وأحزان غيره وإن كانت هي ذات الهموم وذات الأحزان.
إن شخصيات هذه المسرحية تعيش صراعا نفسيا « هدى:ممكن ندخل ننام.سنية:ننام..طول عمرنا بنام..أخذنا إيه..الليل مشكلة كل شيء بيختفي...هدى:أنا عايزة أخرج من سجنك...من إحباطك..من ظنونك..من قلقك....من كابوسك ؟.....حتى انت يا مصطفى طلعت متجوز .. انت الراجل الوحيد اللي حبيته في حياتي اللي حسيت اني ممكن أعيش معاه تحت سقف واحد وبيت واحد...طلعت متجوز ..مش دي خيبة..... (المسرحية.ص.26/27).
هدى:انتي ليه بتشوهي كل حاجة حلوة؟ سنية:كل حاجة اتشوهت من زمان بس احنا ساعات نحب نجملها ونتفاءل بيها من غير سبب.هدى: انت إيه ؟!!سنية:اختك.هدى:انتي شريرة.سنية:مفيش حد خالي من الشر فينا».(المسرحية.ص.29).وصراعا اجتماعيا فرضته الظروف وتركيبة المجتمع وقيمه التي انهارت ،في ظل التغيرات التي شهدها العالم ككل،فالمجتمع العربي جزء لا يتجزأ من هذا العالم؛إذ الابتعاد عن العقيدة جعل مجتمعاتنا تتأثر بهذه التغيرات ،ليس من الناحية الإيجابية فحسب بل من الناحية السلبية أيضا.فالمصلحة وحدها هي التي تجعل من الإنسان شخصا ذا قيمة يحظى بالاهتمام من طرف الجميع ، فعلى قدر امتلاك الفرد للأموال والسلطة والجاه على قدر اهتمام الآخرين به.وهذا ما حدث مع (سنية)و(هدى) فبمجرد انتشار خبر عودة خالهما المليونير من الولايات المتحدة الأمريكية،إلا وتغيرت معاملة الجميع لهما،فهاتفهما الذي ما كان يرن أبدا، أصبح لا يتوقف عن الرنين من فرط المكالمات للسؤال عن حالهما وعن موعد قدوم خالهما« سنية :عجبك كده..التليفون ما بطلش. هدى:شفتي ازاي خالك خلى الناس يتصلوا بينا.سنية:ناس منافقين؟هدى:ليه؟. سنية:فاكرين انه هيحقق أحلامهم».(المسرحية ص.19/20).
وما أسوأ حال المرأة التي تجد نفسها بدون مال،وبدون أب أو أخ أو زوج يحميها من غدر الزمان، فـ(سنية) امرأة منسية ولم يعد لها أي وجود سوى في حياة (هدى) و(العم سليمان) هذا الأخير الذي يتحمل منها الكثير من العناء ،وكأن كل الوجوه الغائبة في حياتها حاضرة فيه،وقد عبّرت (هدى) عن ذلك صراحة بقولها بأنه الرجل الوحيد في حياتها بحكم انطوائها وانعزالها كلية عن المجتمع فلا علاقات اجتماعية لها ،إنها تنظر بعدائية شديدة إلى المجتمع وتحمله كل خيباتها وانكساراتها«هدى: ساعات أحس انك بتعاملي عم سليمان كأنه جوزك.سنية:اخرسي يا بنت.. !هدى: وساعات أحس انك بتعامليه كأنه أبوكي .سنية:دا أبويا. !هدى:ماهو ياأبوكي يا جوزك ...اختاري. سنية: ما اسمحليكيش ..زودتيها... هدى:وساعات أحس انك بتعامليه كأنه الإنسان اللي بيحميكي من العالم-لا بيخليكي تروحي السوق ولا تتعبي وكل حاجة تعوزيها يجيبها لك»(المسرحية ص.15). وإذا كانت(سنية) ترى في البيت الحماية الكاملة ،فإن(هدى) ترى فيه سجنا يحد من حريتها وأحلامها وطموحاته« هدى:سجن. سنية:سجن.. !بيت أبوكي سجن..البيت اللي اتربينا فيه..البيت اللي حمانا من الي يسوى واللي ما يسواش..سجن !هدى:أيوه سجن..أنا بسميه سجن.سنية:البيت الواسع.. دا سجن .. الفيلا دي كلها سجن دا فيه ناس تتمنى تسكن في ربعه.هدى:السجن مش لازم يكون صغير وللا كبير..السجن يعني الحياة ما يبقاش لها طعم ولا معنى.سنية: البيت دا سجن !كل جدار فيه حمانا من ألف عين بتبص علينا ..كل ليلة قضيناها فيه كانت لها طعم ولها ريحه طيبة.هدى:أنا بطلت أحلم من يوم أبوكي وأمك ما ماتوا..أول مرة أحلم امبارح من ساعة ماجه التلغراف عارفه يعني إيه..؟يعني خالك ..لسه عارفنا ..لسه احنا جواه ..يعني جاي لينا ياخذنا».(المسرحية ص.16/17).
فبينما تجتهد (سنية) في النأي والابتعاد عن الآخرين تسعى (هدى) إلى الاندماج في المجتمع حتى وإن كانت مدركة لحقيقة كل ما تقوله (سنية) «سنية:....ساعات أحس انك غبية .هدى: (وهي منفعلة) أنا مش غبية..أنا فاهمة كل حاجة. سنية :فاهمة إيه..؟.هدى:فاهمة ان مصطفى كان يمثل عليّ انه فرحان..وفاهمة انه طمعان في فلوس خالي ...فاهمة انه فاكر ان ورايا.. فاكر اننا معانا كنز وانه ممكن يستولي عليه ..فاكر انه يقدر يضحك علينا بشكل الحلو.سنية:امال ليه مستمرة معاه عايزة افهم! !؟هدى:لو ما حلمناش كنا نموت..كنا ننتحر يا أختي احنا في زمن رديء ».(المسرحية ص.33).
إلا أنها تغض الطرف عمدا لتحيا على الأمل وإن كان زائفا ،على الحب وإن كان كاذبا، تضحك رغم إدراكها أن عمرها الحقيقي غير ما تصرح به للآخرين« هدى:..عندي 29سنة يا عمي سليمان وبقول 19واختي 39 وبتقول 29 وبنضحك على بعض وبنكدب وبنصدق كدبنا !!».(المسرحية ص.36).تستلذ الحياة بالكذب الذي تلف نفسها به، وإن كانت في قرارة نفسها تؤمن بالعكس، وتدرك الحقيقة بكل تجلياتها .إنها بكل بساطة تخلق عالما يمتزج فيه الزيف بالحقيقة ،والكذب بالصدق في واقع ملىء بهذا وذاك ، لا لشيء إلاّ لتحيا الحياة بكل تفاصيلها .
وما أروع الخاتمة التي ختم بها الكاتب هذه المسرحية،فبعد طول انتظار ،وأيام قليلة تترقب فيها الأختان قدوم الخال كانت دهرا بالنسبة لهما -وإن كان ذلك باديا بوضوح على (هدى) من خلال تصرفاتها ولهفتها على استقبال الخال والذهاب إلى المطار قبل موعد وصول الطائرة بساعات ، ولم يكن يظهر على تصرفات (سنية) إلا أننا نحس وبطريقة خفية نتلمسها من لغة الكاتب أنها راغبة في أن يصبح الحلم حقيقة،ويكمن الإختلاف بينهما في أن (هدى) شفافة ،ومشاعرها تلقائية،لا تحرم نفسها ولا الآخرين من إبداء هذه المشاعر،بينما (سنية) تقف على الطرف النقيض هي مبهمة وغامضة في أحاسيسها دائما –ولعلني أفتح قوسا هنا لأقول (بأن اختيار الكاتب لشخصيتين تعيشان تحت سقف واحد وتختلفان في الكثير من الأمور على المستوى النفسي والإجتماعي جعل العمل يبدو أكثر توازنا ،هذا التوازن أسهم بشكل كبير في نجاح المسرحية ووصول الكاتب إلى المبتغى).
أعود إلى النهاية التي أرادها الكاتب-كما أرى- مفتاحا للأمل الذي بني على أنقاض أمل سرعان ما دفن كما دفن الخال الذي تنتظره الشخصيتان منذ سنوات،ليكون باب الأمل والفرح مفتوحا على مصراعيه بعد حضور (العم سليمان) لأخذهما معه إلى عرس ابنه ،فبابتسامة ربما ساخرة من حلم زائف بنيت عليه أحلام وأحلام،رافقت (هدى) و(سنية) (العم سليمان) الحاضر بقوة في حياتهما ،أو ربما هي ابتسامة مشرقة أو ضحكة تتغلب من خلالها كل واحدة منهما على هذه الخيبة الجديدة التي تضاف وستضاف إليها خيبات أخرى طالما أن الحياة مستمرة ،فكل شيء سيستمر ولن تتوقف الرحى عن «عم سليمان:هتيجوا معايا الفرح ..غصب عنكم..أنا جيت أخدكم ومعايا أم العريس برة مستنياكم اتفضلوا.....سنية:احنا جايين معاك ياعم سليمان مادام انت جيت بنفسك يا أبو العريس.(موسيقى الفرح مع خروجهم يضحكون ..) ».(المسرحية ص.42).
وفي الختام أجدني قد قرأت هذه المسرحية مرارا، ولكن مع كل قراءة جديدة كنت اكتشف فيها الكثير،ولي أن أقول دون مجاملة مني للكاتب بأن هذه المسرحية وثيقة هامة، على طلبة علم النفس اعتمادها لاكتشاف وجه بل وجوه من مشاعر المرأة وأحاسيسها قالها الكاتب ،ولم تقو ربما المرأة على قولها بهذا الصدق وهذه الدقة.


الهوامش:
*-إمرأتان: مجموعة مسرحيات من فصل واحد . السيدحافظ .رؤيا مركز الكتاب العربي.ط.1.2003.
1-خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة:رزان محمود إبراهيم.دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان/الأردن.ط1. 2003.ص.17.
02-تحليل الخطاب الروائي:سعيد يقطين.المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء.ط1. 1989.ص.19.
03-م.ن.ص.ن 04-م.ن.ص.24. 05-م.ن.ص.ن.
06-شعرية الفضاء السردي:حسن نجمي.المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء.ط.1. 2000.ص.78.
07-م.ن.ص.ن. 08-م.ن.ص.79.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق