السبت، 4 أبريل 2009

مسرح الطفل فى الكويت10

السيرة الشعبية في مسرح الطفل .

تجربة السيد حافظ .
دراسة للدكتور / طارق محمود الحصري .

إشراف دكتور أبو الحسن سلام .
رسالة ماجستير / جامعة الإسكندرية / قسم المسرح عام 2005 .


















توظيف السيرة الشعبية في مسرح الأطفال :
تطبيقا على مسرحية " عنترة بن شداد " للسيد حافظ :

حظيت السير الشعبية باهتمام كبير من قبل الأدباء والمبدعين المعاصرين الذين استلهموا موضوعاتها وعناصرها في أكثر من عمل أدبي ، كما كان لمسرح الكبار نصيب كبير في استلهام السير الشعبية في أعمال درامية منذ بدايات القرن العشرين ، ومن هذه السير سيرة " عنترة بن شداد " .

يشير رمسيس عوض [1] في موسوعة المسرح العصري الببلوجرافية إلى أنه قد تم عرض أول مسرحية باسم " عنترة بن شداد " عام 1901 من تأليف شكري غانم ، وفي عام 1928 كتب حبيب جاماتي مسرحية تحمل عنوان " عنترة " كما قام أحمد شوقي عام 1932 بكتابة مسرحية تاريخية شعرية بنفس الاسم " عنترة " . وفي عام 1977 قدم مسرح الطليعة مسرحية " يا عنترة " من تأليف يسري الجندي [2] وإخراج سمير العصفوري ، أما بالنسبة لمسرح الأطفال فقد كان للسيد حافظ تجربتين في استلهام السير الشعبية هما " عنتر بن شداد " [3] ، و" فرسان بني هلال " ، " أبو زيد الهلالي " . ولم تظهر حتى الآن محاولات أخرى لكتاب آخرين في مجال توظيف السير الشعبية واستلهامها في مسرح الطفل .

وسنحاول في هذا الفصل الاقتراب من هذين العملين بالدراسة والتحليل ، وسنبدأ بمسرحية " عنترة بن شداد " . وسيرة عنترة قد احتلت وجدان الشعب العربي لفترة طويلة، بل لعله لا يزال حتى الآن رمزا للبطل الذي حطم كل القيود التي وقفت في سبيل حريته وتحقيق ذات أمته وكمالها ، وإذا ما انتقلنا إلى صورة البطل " عنترة " في السيرة الشعبية ، نجده بطلا يحمل الملامح الأسطورية بما أضاف إليه الخيال الشعبي من ملامح وصفات وأخبار عجيبة عن مغامراته .

ترى د. نبيلة إبراهيم أن بطل السير الشعبية العربية لا يختلف عن أبطال الملاحم في شيء سوى أنه يحقق البطولة في إطار المجتمع الإسلامي [4] .

فعنترة العبسي كان شاعرا وفارسا في العصر الجاهلي ، ولكن عندما استمر الشعب العربي يروي قصص بطولته بعد الإسلام تشكلت صورته بشكل جديد بحيث أصبح رمزا للبطولة الإسلامية ، وإذا كانت القضايا التي كان عنترة يصارع من أجلها ترتبط كل الارتباط بمجتمعه الجاهلي القبلي ، ونعني بذلك قضية اعتراف أبيه ببنوته حيث أنه ولد من أم حبشية ، وما ترتب على هذه القضية من استحالة زواجه من ابنة عمه عبلة ، ثم قضية لونه - حيث أن المجتمع كان ينظر إلى السود بوصفهم عبيدا - فإن هذه القضايا تكتسب في السيرة طابع الشمول بحيث يمكن أن تكون قضايا إنسانية عامة يدافع عنها الدين الإسلامي ، ومع ذلك فقد ظل عنترة في السيرة بطلا يعيش في العصر الجاهلي ، ولكن الراوي جعل من إنجازاته مهدا للدعوة الإسلامية . وتتمثل هذه الإنجازات في نشر الوعي بالحق والعدل من ناحية ، وفي إزالة العقد والمتناقضات الاجتماعية من ناحية أخرى [5] .

وإذا كانت سيرة عنترة بن شداد تبدو لنا كملحمة بطولية وفروسية في المقام الأول إلا أنه سرعان ما تكشف لنا عن ارتكازها على تيمة الحب والعشق والغرام الذي يختلج بالعواطف الصادقة ، وهو الدافع الأساسي في كل ما وصل إليه عنترة بن شداد بداية من مقدرته على انتزاع الاعتراف الرسمي من والده " شداد " ببنوته وصولا إلى نجاحه في الفوز بعبلة . وليس هناك بطل من أبطال السير الشعبية لا تقف وراء بطولته امرأة [6] .

وعنترة كواحد مع أبطال هذه السير تقف وراءه عبلة ؛ وعلى ذلك فإن موضوع هذه السيرة قد يجد صدى لدى أطفال المرحلة العمرية ( 8 – 12 ) ، وهي كما يطلق عليها علماء النفس مرحلة البطولة التي يعجب فيها الطفل بالأبطال والمغامرين الذين يقرأ عنهم ويشاهد بشغف لا حد له ما يصور بطولاتهم ومغامراتهم ، ويحاول تقليدهم في بعض المغامرات التي يقوم بها ، ويبلغ إعجابه بهم درجة التقديس ، مهما يكن موضوع البطولة أو المغامرة [7] . كما تجد فيها ما يناسب المرحلة التالية وهي مرحلة المثالية من سن ( 12 – 15 ) ، فالطفل في هذه المرحلة يشغف بالقصص التي تمتزج فيها المغامرة بالعاطفة ، وتقل فيها الواقعية وتزيد فيها المثالية ، ويضيف هادي نعمان الهيتي أن أكثر المغامرات التي يتشوق إليها الأطفال في هذه الفترة هي التي تقوم ببطولتها شخصيات تتصف بالرومانتيكية ، وخاصة تلك التي تواجه الصعاب الكبيرة والعوائق المعقدة من أجل الوصول إلى حقيقة من الحقائق أو الدفاع عن قضية عادلة [8] .

وهذا ما نجده في شخصية " عنترة بن شداد " بما يتصف به من رومانتيكية ، وتتمثل في علاقة الحب بينه وبين عبلة . وللحب هنا دور مميز ومهم في رسم ملامح البطل وتحديد المسار الذي سيأخذه صراعه ، وتصبح المرآة في هذه الحالة رمز تطلعات البطل إلى الوجود الأفضل ، والمعنى الأسمى في الحياة ، وتختلط هنا عاطفة الحب بالمعنى الأعلى لصراع البطل [9] . لقد حاول السيد حافظ أن يركز على تيمة الحب الذي يأتي بالمستحيل ، وهي من التيمات المناسبة للطفل في فترة البلوغ ، وهي الفترة التي ينتقل فيها الطفل من مرحلة تتصف بالاستقرار العاطفي إلى مرحلة دقيقة شديدة الحساسية حيث تحدث فيها تغيرات واضحة يصاحبها ظهور القوى الجنسية . ونتفق مع هادي نعمان الهيتي في ضرورة مصارحة الأطفال ببعض المشكلات الجنسية كي نبعد عنهم الخوف والقلق والحرمان ، ونحول دون الوقوع فيما وقعنا فيه من النظر إلى الجنس نظرة مشوهة ، وأن نبدأ بذلك من تفتح عواطف الأطفال ، وهذه بلا شك تسبق فترة المراهقة بكثير ، لأن ما نسميه تربية جنسية ليس إلا جزء غير قابل للتجزئة من التربية العاطفية بوجه عام ، والتي لا يمكن لأحد أن يناقش في وجوب الالتزام بها [10] .

وبناء على ذلك نجد أن الدراما يمكن أن تؤدي دورا كبيرا في التربية العاطفية بما فيها التربية الجنسية ما دامت تتسلل إلى الذهن والوجدان بشكل فني . ويجب أن نحرص من خلالها التأكد لدى الأطفال بأن الجنس هو تنويع للعلاقة العاطفية في إطار من الشرعية التي تراعي تعاليم الدين والتقاليد والأعراف الاجتماعية ، وليست شيئا منفصل عنها ، ولعل قصة الحب التي جمعت بين عنتر وعبلة ما يساعد على ترسيخ وتأكيد هذا المفهوم لدى الطفل .

قراءة في المشهد الافتتاحي ودلالاته الفكرية :

المشهد الافتتاحي عبارة عن صالون في إحدى البيوت العربية حيث يجتمع أفراد الأسرة لتناول الشاي ويحضر بعض الضيوف لزيارتهم ، وبينما هم كذلك ، يقترح عليهم العم سالم قص حكاية عنترة ، وعلى الجميع الاشتراك في تمثيلها . وهذا المشهد يحمل أبعادا ودلالات يمكن إجمالها فيما يلي :

الدور الخطير الذي تلعبه الأسرة في تربية الطفل وتنشئته .
دور الإعلام متمثلا في التليفزيون ، والذي يعد وسيلة من وسائل التوجيه والتربية والتثقيف إلى جانب الترفيه من خلال ما يبثه من رسائل متنوعة بما فيها الأفلام التي يبثها لأطفالنا ، فهي أحيانا ما تكون أعمال لا تتناسب مع معتقداتنا وقيمنا الدينية والاجتماعية .

وفي هذا المشهد نلاحظ الاعتراف الضمني بصدمة الحداثة و الثقافة الغربية المعاصرة التي تهدف إلى طمس معالم الحضارة العربية بشتى الوسائل ، فالكاتب يبني اندهاشه على لسان الأب من الأطفال الذين توثقت علاقتهم بالحكايات الغربية المستحدثة في الوقت الذي لا يحفظون فيه حكايات الفرسان العرب.

الطفل الأول : أريد أن أشاهد التليفزيون .. جونكر .
الأم : من جونكر هذا ؟
الطفل الثاني : لا باباي .. أجمل .
الأب : أنا لا أفهم كيف يعرف أولادنا حكاية جونكر وبيل و سباستيان و جونكر ولا يحفظون أبطال حكاياتنا [11] .

ويبرز لنا هذا الحوار عدم الرعاية اللازمة من قبل الأسرة تجاه الأبناء ، وتركهم فريسة سهلة لهذا الجهاز الخطير يتلقون منه ما يبثه إليهم ، وقد لا يعرف الآباء طبيعة المادة المقدمة للطفل ، وقد يكون ذلك بسبب الغياب الدائم عنهم لظروف العمل ، وهذا ما نستشفه من جواب الأم على طفلها ، من جونكر هذا ؟ كما أن إجابة الأب توحي إلينا بعدم وعيه وإدراكه لطبيعة دوره كأب وكمربي في تثقيف أبنائه وتوجيههم المعرفي والثقافي ، ذلك الدور الإيجابي في التنشئة ، والذي بدونه لابد وأن تخرج الشخصية بها شيء من الخلل . كما أن اندهاش الأب يحيلنا إلى مدى الخطورة التي أصبحت تهدد الثقافة والتراث العربي بسبب السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام . وعلى هذا الأساس ، فإن الطفل العربي يواجه مشكلة الثقافة الدخيلة التي لا تعبر عن حضارته ، لاسيما وأن الصراع الحالي ، وكما يشير محمد الهلالي " هو صراع حضاري حول الثقافة ، وفي ميدان البحث العلمي والتكنولوجي ، فالثقافة هي أهم ساحة للصراع " [12] .

لقد أدرك السيد حافظ طبيعة المعركة الحاضرة بين العالم العربي والعالم الإسلامي التي تجاوزت الميدان العسكري إلى الميدان الثقافي ، فكان قراره باللجوء إلى مخزون التراث العربي إيمانا منه بأن التراث مهم توظيفه لإيقاظ روح الأمة ، وهو مهمة أساسية تقترح آفاقا جديدة لتضع الطفل العربي على عتبة الماضي وأقدام الحاضر واستشراف المستقبل [13] .

لقد حرص الكاتب على تضمين المشهد الافتتاحي بعض القيم التي يود ترسيخها في نفوس الأطفال، ويدعوهم صراحة إلى الصدق وعدم الكذب .

جرس الباب
الأب : آه جاءنا ضيوف فسدت اللعبة .
فتحي : لا تفتح لهم الباب .. فكأننا لسنا هنا .
عم سالم : لا يا فتحي – لا تكذب على ضيوفك ، افتح لهم الباب .
فتحي : حاضر [14] .

كما يحاول الكاتب أيضا أن يقدم للأطفال بعض التوجيهات السلوكية ،ويؤكد على ما يجب عليهم سلوكه سواء أكان في المنزل أو في الشارع أو في النادي على اعتبار أن كل مكان يتطلب نوعا خاصا من السلوك واللباس ، ونجد صدى ذلك في الحوار التالي :

الطفل الأول : يا أبي سأخرج للعب .
الأب : أين ؟
الطفل الأول : في الشارع مع الأصدقاء . ( يحمل كرة قدم في يده )
الأب : اللعب لا يكون في الشارع .. اللعب يكون في الملاعب .
العم سالم : وملابسك هذه ملابس للخروج وليست مخصصة للرياضة [15] .

وتكمن جماليات هذا المشهد في رأي الباحث في أنه يحيل المنزل إلى مكان للإشعاع الثقافي والفني ، كما تكمن جمالياته في التحولات التي ستطرأ عليه بفضل الخيال الذي يشارك في نسجه كل أفراد العائلة ، ومن خلال مشاركتهم في تمثيل سيرة عنترة . فالمؤلف يجعل كل منهم شريكا في الفعل ، وقبل ذلك فإن كل منهم يشارك بخياله الخلاق في نسج الأحداث ، التي سنرى من سياق التحليل أنها قد اختلفت عن أحداث السيرة كما نعرفها . ويحيلنا أيضا المشهد الافتتاحي إلى نوع من أنواع الدراما التي يمارسها الأطفال فيما بينهم بشكل تلقائي وهي الدراما الإبداعية أو التلقائية التي تعمل كما يرى بيتر سليد على تحقيق التوازن عند الأطفال بين الخيال والواقع من خلال اللعب الشخصي الذي ينمي القدرات العضلية والحركية ... واللعب الإسقاطي الذي ينمي الخيال والفن والموسيقى وقوة الملاحظة والتركيز والتنظيم [16] .

والدراما التلقائية تهدف أولا وأخيرا إلى تنمية القدرات الإبداعية والابتكارية عند الطفل ، هذا إلى جانب تحقيق أهداف أخرى تتحقق تلقائيا بمجرد تحقيق الهدف الأساسي لها . من هذه الأهداف خلق الروح الاجتماعية ، و تحقيق التوازن النفسي عند الأطفال ونمو القدرات اللغوية والحركية للطفل ؛ هذا إلى جانب القدرة على التذوق الفني لدى الطفل [17] .

عم سالم : ما رأيكم نحكي كلنا حكاية .
الطفل الثاني : نحكي كلنا ؟
الأب : كيف ؟
عم سالم : نحكي الحكاية ونمثلها جميعا .
الأم : نحن نمثل .
عم سالم : نعم !
الطفل الثالث : أي حكاية .. اضرب لي مثلا يا عمي .
عم سالم : حكاية مثل حكاية عنتر بن شداد .
الجميع : عنتر بن شداد [18] .

إن الدهشة التي تعتري الجميع هي دهشة من كونهم سيقومون بالتمثيل لسيرة قد يعرفها البعض والبعض الآخر قد لا يكون ملما بتفاصيلها ، وهذا ما يعطينا إيحاء بأن ما سيتم أمامنا هو نوع من أنواع الارتجال ، والارتجال يتطلب بطبيعة الحال خيالا خصبا وفي الوقت ذاته لا يخرج بنا بعيدا عن إطار الفكرة الأساسية وهي البطولة . كما أن الارتجال " هو العنصر الفعال في العرض المسرحي الشعبي ، وهو الذي يحدد مدى فعالية المؤدين في علاقتهم مع الجمهور من ناحية، ومع الشخصية التي يؤدونها من ناحية أخرى ، ويساعد الارتجال على اكتشاف الذات والجسد وتناغمهما معا ، مما يؤثر بدوره على الأداء بكل أنواعه " [19] .

ويعد الارتجال من أهم عناصر الدراما التلقائية ؛ ونتفق مع مصطفى منصور في أن الارتجال في المسرح هو مهارة استخدام الممثل إمكانياته المختلفة في أثناء العرض المسرحي بتلقائية ، وبصورة مفاجئة بما يتفق مع السياق العام للعرض المسرحي ، وذلك للتعبير عن شخصية درامية أو فكرة أو موقف أو نص ، بهدف تحقيق علاقة تواصلية احتفالية مع الجمهور [20] . إن الارتجال في المسرح الشعبي ضروري جدا لتفجير طاقات الممثل الإبداعية وخلق علاقة حميمة بين العرض والجمهور . وبذلك يهيئ المؤلف منذ البداية الجمهور لتقبل ما سيحدث من تغيير أو تحوير في بعض أحداث السيرة .

وننتقل الآن للمشهد التالي الذي يستهله المؤلف بخروج دائرة ضوئية من قلب المسرح ، إشارة إلى عنترة البطل المستدعى من قلب الماضي السحيق بمصاحبة أغنية تعرفنا بالبطل :

يحكى أن عبدا أسود .. اسمه عنتر .. عاش ذليلا من أبيه ومن قبيلته ومن حبيبته عبلة [21] .

تنتهي الأغنية لنجد المنزل قد تحول إلى خيمة جميلة أنيقة ، هي خيمة زبيبة أم عنتر التي تروح و تجيء في حالة من القلق على ابنها وتطلب من شيبوب أن يناديه لتعرف منه ما يحزنه ، و يطالعنا العم سالم في دائرة من الضوء حيث يصف لنا زبيبة ، وطبيعة العلاقة بين عنتر و شيبوب ثم يدعنا نكمل الحكاية مع زبيبة و عنتر .

( عم سالم يظهر في دائرة الضوء ) .
هذه زبيبة أم عنتر .. عبدة سمراء .. جميلة .. من أجمل النساء السمراوات .. طيبة .. حنونة .. عبدة شداد .. وأم عنتر ..
شيبوب أخو عنتر من أمه .. أبوه مات وبعدها أصبحت زبيبة عبدة شداد وأنجبت عنتر .. والآن يا أطفال . عنتر و شيبوب أخوان .. صديقان عزيزان .. دعونا نكمل الحكاية يا أطفال [22] .

ونلاحظ منذ هذه اللحظة أن العم سالم هو الذي سيتولى القيام بمهمة الراوي – راوي السيرة الشعبية – في مقابل الكورس في المسرحية القديمة الذي يعتمد على " وصف الماضي ورواية القصة أو الحدث المسرحي الناقص بالإضافة إلى دوره في إعطاء المعلومات والأخبار" [23] .
وهي تستخدم كتقنية في هذا العمل لتحول دون اندماج المتفرج الصغير داخل إطار حكاية ، وتجعله يقظا دائم التفكير فيما يشاهد ليأخذ منه العبرة والعظة .

وننتقل إلى المشهد التالي حيث تحاول الأم معرفة ما يحزن ولدها عنتر الذي يعيش في عالم من التناقض والمفارقة ، يعيش لغزا يحيره مع علم السادة برومانسية متناهية تضع غشاوة على عينيه حتى لا يدرك حل اللغز ، فهو باعتراف الأم ابن القبيلة وفارسها ، لكنه لا يعرف كيف السبيل للحصول على عبلة.

كما يحاول الكاتب على خلاف ما قيل عن تسلط الرجل على المرأة في ذلك العصر، التأكيد على حرية الفتاة في اختيار شريك حياتها .

زبيبة : لن أكف عن الكلام في هذا الموضوع ، عبلة تختار من تراه مناسبا لها .
عنتر : وأنا غير مناسب ؟
زبيبة : يجب أن تفعل ما يجعلها تثق بك وتميزك عن الرجال .. يجب أن تفعل شيئا للقبيلة .
عنتر : أنا أحارب مع القبيلة .
زبيبة : والكل يحارب من أجلها .
عنتر : أنا أعطي القبيلة كل ما أملك من دم وجهد وعرق .
زبيبة : عنتر يا ولدي ! الوطن والقبيلة تعطيهما دون أن تأخذ شيئا .
عنتر : إلى متى ؟
زبيبة : طوال العمر .
عنتر : إذا ماذا أفعل .. حتى تنتبه إلى عبلة .. حدثيني يا أمي .
زبيبة : فكر .. ودبر نفسك .. وأمرك .
شيبوب : وأنا معك .
عنتر : أسكت يا شيبوب .. دعني أفكر [24] .

وكما يلاحظ من الحوار السابق أن الأمر لم يزدد إلى غموضا فتعد أن تطالبه الأم بأن يفعل شيئا للقبيلة تعود فتؤكد أن الوطن والقبيلة نعطيهما دون أن نأخذ شيئا طوال العمر . وبرغم الغموض والحيرة التي قد تنتاب المشاهد من جراء هذا الحوار الملغز إلا أنه يضفي حالة من التشويق ويجعلنا نتتبع الأحداث لمعرفة كيف سيحل هذا اللغز .

بعد ذلك يتتابع أمامنا ثلاثة مشاهد يظهر خلالها الخطّاب الثلاثة الطماعين في الفوز بعبلة ، لنتعرف على كل منهم بصفاته المختلفة . الربيع الذي يمثل المال ، عمارة الذي يمثل الجمال ، ضرغام ويمثل قوة العضلات . ويبرز لنا الكاتب في هذا المشهد شخصية عبلة التي عليها أن تختار من بينهم زوجا لها . والكاتب يؤكد من خلال هذا المشهد ذكاء عبلة ورؤيتها الصائبة لأمور من خلال الحجج التي تسوقها عند رفضها لكل واحد منهم يمثل بالنسبة لها جزءا من الصفات التي ترغبها في فارس أحلامها ، وكأن الكاتب يريد أن يبرز صورة البطل الحقيقي عنترة الذي يمثل الكل ( تحرير القبيلة بالإضافة على فعل المستحيل من أجل الظفر بها ) .

وبعد هذه المشاهد الثلاثة المتتابعة يطالعنا الراوي .

عم سالم : يا أطفال انتبهوا . جاء الربيع بما له وطمع في عبلة . رفضته عبلة ، وجاء عمارة

بجماله فرفضته عبلة، وجاء ضرغام بقوة عضلاته فرفضته عبلة ، ولكن عنتر غير هؤلاء [25].

فالكاتب بذلك يريد من الطفل المتلقي أن يعمل عقله فيما يشاهد ، وأن يعقد مقارنة، وأن يستكشف بنفسه في أثناء متابعتة للأحداث ما يميز عنتر عن كل هؤلاء .

وتتكشف لنا بطولة عنتر مع تطور الأحداث وتناميها ، فيتطور الصراع ليتحول من صراع نفسي للبطل – ( معاناة عنترة وإحساسه بالغربة والضياع داخل القبيلة نتيجة المفارقات الكائنة بينه وبين شباب القبيلة المتنافسين على الزواج من عبلة ) – إلى صراع خارجي بين قبيلة عنتر والأعداء الذين أسروا كل الشبان والفرسان حتى أنه لم يبق في القبيلة غير العجائز والأطفال . ولفك القيد عنهم يطلب الأعداء الفدية، وتتمثل في الإتيان بثلاث تفاحات ، والإتيان بها هو ما يضمن لعنترة شيئين :

الأول تحرير القبيلة ، الثاني : الظفر بعبلة التي تؤكد له بأن " من يحضر التفاحات الثلاث وينقذ الوطن سأتزوجه في الحال " [26] . وهذه العبارة تزيل اللبس والغموض الذي غلف المشهد الذي جمع بين الأم زبيبة وعنترة ، عندما قالت له " يجب أن تفعل ما يجعلها تثق بك وتميزك عن الرجال .. يجب أن تفعل شيئا للقبيلة " [27] .

لقد أصبحت عبلة بذلك رمز للقبيلة ؛ والدفاع عن القبيلة وتحريرها هو دفاع عن عبلة وكأن الاثنين وجهان لعملة واحدة .

والقصة كما جاءت في السيرة تختلف عما يسوقه لنا المؤلف في أحداث المسرحية. ففي أحداث السيرة وكما استلهمها محمد فريد أبو حديد في رواية للأطفال تحت عنوان " أبو الفوارس عنتر بن شداد " يشارك عنترة في تحرير القبيلة بعد أن يعترف والده ببنوته ، ولكن هذا لم يشفع له في الزواج من عبلة ؛ فالزواج من عبلة يتطلب المستحيل وهو أن يقدم لها مهرا لم يقدمه أحد من قبل ، وهو عبارة عن ألف من النوق العصافير التي كانت لدى الملك النعمان ، ولم تكن في قبائل العرب قبيلة تملكها . ولعل هذا التغيير والتحوير قد لجأ إليه المؤلف حتى يتسنى له إظهار ذلك على خشبة المسرح . فمن المستحيل بالطبع الإتيان بألف ناقة على خشبة المسرح . وعلى الرغم من هذا الاختلاف والتغيير الذي أجراه المؤلف في تناوله للسيرة وأحداثها إلا أنه حافظ في بعض الجزئيات على تلك الأحداث الحيوية العامرة بالحركة والمتعة والتي ساعدت في إبراز صورة البطل عنترة ؛ الذي يحاول من خلال المغامرات الثلاث المليئة بالصراعات أن يظفر بما يريد ، والتي تكاد في كل مرة أن تودي بحياته لولا حكمته ونباهته ، وذلك بخلاف ما جاء بالسيرة بأنه حاول أن يحصل على " النوق العصافير " عنوة .

وهذا ما يكشف عن لماحية الكاتب " السيد حافظ " حين تجنب ما جاء في سيرة عنترة من الاستيلاء عنوة وبدون وجه حق على بعض ممتلكات الغير وبهذا صنع قيمة تربوية .

ونجد أيضا أن المؤلف بهذا التحوير والتبديل الذي لجأ إليه أراد أن يسوق للأطفال معايير وصفات وقيم مهمة يجب أن تتوافر فيمن يتصفون بالبطولة .

ونجد أولها في التأكيد على قيمة العلم ،وضرورة اكتسابه لأنه يعد فريضة على كل إنسان ، ولكونه مفتاح الحياة وسبيل الفلاح . ومن أجل تأكيد قيمته جعل المؤلف نجاة البطل عنترة من الموت مقترنا بعمله واستخدامه العقل والحكمة . ولولا ذلك لما استطاع مقاومة الصراع اللامتكافئ بينه وبين مصارعيه . والمؤلف يحاول أن يسلح البطل بهذا السلاح قبل خوض معاركه ، فيسوق لنا مشهدا يجمع بين عنترة ورجل عجوز يبيع الحكمة.

عم سالم : تشتري الحكمة برغيف ؟
عنتر : خد يا عم رغيف ( يعطيه رغيف ) .
شيبوب : يا عم أي حكمة تشتريها .. نحن جوعى وطريقنا طويل .
عنتر : هذا رجل خبير بالحكمة . وقد تنفعنا حكمته .
شيبوب : يا عم أين طرق التفاحات الثلاث ؟
عم سالم : أنا أبيع الحكمة يا بني . اسمع مني هذه الحكمة " في السرعة الندامة وفي التأني
السلامة " .
عنتر : حكمة جميلة .
شيبوب : عنتر ، كفاية حكمة واحدة .
عنتر : خذ رغيفا آخر وأعطني حكمة أخرى .
عم سالم : العلم نور .
عنتر : جميلة أيضا هذه الحكمة !
شيبوب : كفاك حكم وهيا بنا قبل أن يضيع الطعام لهذا الرجل الدجال .
عنتر : انتظر يا أخي .
شيبوب : سأذهب قبل أن توزع كل الخبز الذي لدينا هيا بنا ( يبتعد شيبوب).
عنتر : شيبوب – شيبوب .. إلى أين أنت ذاهب ؟
عم سالم : ليس بالطعام وحده يحيا الإنسان .
عنتر : ( يجري خلفه وينادي ) يا شيبوب .. يا شيبوب [28] .

ويقودنا السيد حافظ في المشاهد التالية في رحلة عنتر بن شداد لنعرف كيف استفاد من هذه الحكم الثلاث في التغلب على ما يواجهه من عقبات ، وهي مشاهد تقترب كثيرا مما نجده في الحكايات الشعبية وهي مشاهد مليئة بالخيال والإثارة ..

ففي رحلته الأولى للحصول على التفاحة الأولى نجد أنفسنا في بلاد الحيات حيث يستخدم فيها عنتر الحكمة الأولى التي ابتاعها من الرجل العجوز ( في السرعة الندامة ، وفي التأني السلامة ) ، وفي رحلته الثانية للحصول على التفاحة الثانية نجد أنفسنا في بلاد الملك المهرجان ، وحتى ينجح في مهمته يستخدم الحكمة الثانية ( العلم نور ، والجهل موت ) . وفي رحلته الثالثة للحصول على التفاحة الثالثة نجد أنفسنا في وادي القرود ، والتي يستخدم فيها الحكمة الثالثة وهي ( ليس بالطعام وحده يحيا الإنسان ) . وهكذا استطاع عنترة أن يحضر الدواء ويفوز بالزواج من عبلة [29] .

ونود أن نشير هنا قبل أن ننتقل إلى جزئية أخرى في هذا التحليل إلى نقطة من نقاط التلاقي التي حافظ عليها السيد حافظ بين السيرة والمسرحية وهو الرقم (3) : وهو من عناصر البناء الفني في السير والحكايات الشعبية .

فدائما نواجه بثلاث شخصيات ، ثلاثة أحداث ، ثلاث مهمات ويشير عبد التواب يوسف إلى أن السبب يكمن في أن الرقم (3) هو الأساس في الرابطة العائلية ، إنه الأب والأم والطفل . الصغير حين يسمع قصته يتعاطف مع الطفل وقد يتوحد معه ، بحثا عن المغامرة وجريا وراء الأمان والاطمئنان [30] . كما أن التكرار يشعر الصغار والكبار بشيء من الارتياح خلال رواية الأحداث .. ( الخطيب الأول ) – ( الخطيب الثاني ) – (الخطيب الثالث ) ، التفاحات الثلاث ، الحكم الثلاث ، المغامرات الثلاث . " إن التكرار يدعم المعاني ، ويمكننا من الإحساس ويخفف من التوتر الداخلي ، ويشعرنا بشيء من الأمان لقدراتنا على التنبؤ بما سيحدث عندما نجد أنفسنا قد أحسنا الاستنتاج " [31] .

ومن خلال التحليل السابق لمسرحية " عنترة بن شداد للسيد حافظ نلاحظ أن المؤلف حاول في سياق هذا العمل أن يبرز بعض العناصر المميزة للبطل في السيرة الشعبية والتي نجملها في النقاط الآتية :

التفوق الجسماني والبراعة في فنون القتال و الفروسية .
القدرات الذهنية .
الاكتمال الخلقي .
الانتصار .
البطل مضطهدا اجتماعيا .
البطل يحظى بالمساندة الإلهية .

وسنحاول أن نتناول كل عنصر من هذه العناصر لنرى كيف استطاع المؤلف أن يبرزها في ثنايا العمل المسرحي .

1 - التفوق الجسماني والبراعة في فنون القتال :

من الملاحظ أن معظم أبطال السير يتمتعون بقدرات بدنية هائلة ، وهم في العموم يتميزون بمهارات فائقة في فنون القتال والفروسية ، وتروي السيرة كيف استطاع عنترة أن يصارع أسدا وينتصر عليه ، ويأتي وصف السيرة لهذه الواقعة معبرا عن قدرة عنترة الهائلة وشجاعته النادرة [32] . وبراعة عنترة في فنون الفروسية والقتال تبرز في المسرحية في عدد من المواقف أولها في مملكة الحيات عندما تطلب منه الحية الخيرة مساعدتها للتخلص من الحية الشريرة . ولكن الكاتب يريد أن يبين للمتلقي الطفل أن الفروسية والقتال الحق يجب أن يكونا مقترنين بحسن التدبير والتأني تحقيقا للحكمة القائلة " في التأني السلامة وفي العجلة الندامة " .

2 - القدرات الذهنية :

يتمتع البطل الشعبي بقدرات ذهنية فائقة تمكنه من قيادة الجيوش ، وتمكنه أيضا من التغلب على أعدائه بالحيل والألاعيب الغريبة المبتكرة ، والتي تنم عن ذكاء نادر الوجود ، وهذا ما حاول السيد حافظ أن يبرزه في هذا العمل المسرحي في أكثر من موضع ، ولعل أبرزها استخدام عنترة لذكائه في التغلب على الحية الشريرة وقدرته الذهنية وذكائه في الاستفادة من النصائح والحكم التي تلقاها من الرجل العجوز، حيث قام بتطبيقها في مغامراته الثلاث من أجل الحصول على التفاحات الذهبية .

3 - عروبة البطل :

البطل في السير الشعبية ينتمي إلى أصل عربي وأرومة عربية شريفة ،فهو لابد أن يولد من أبوين ينتميان إلى نسب عربي ، وتهتم السيرة بإثبات هذا النسب ، ذلك أن عروبة البطل وصدق نسبه هي أهم ما يميز هذا البطل [33] . فالبطل الشعبي يشخص الذات العربية ويمثلها ، ولذلك آثر الكاتب أن يؤكد على عروبة البطل منذ البداية وفي أكثر من موضع .

4 - الاكتمال الخلقي :

البطل الشعبي لا يلحقه عيب أو خطأ فليس في هذا البطل عيب يخل بالشرف أو بالفضيلة ، وكل العيوب التي لحقت به ليست نابعة من ذاته بل من الخارج ؛ من المجتمع ومن مفاهيم اجتماعية تجعل من الرجل الشريف عبدا أو خادما أو تابعا لسبب خارج عن طبيعته الفاضلة [34] . وهو كما يظهر في السيرة يبرزه أيضا السيد حافظ في المسرحية ويؤكد على أن كل ما يعيب عنتر هو لونه الأسود وليس أي سبب آخر ، وهو السبب الذي يجعل والده يتنكر له ولا يعترف ببنوته .

5 - الانتصار :

البطل الشعبي لا يعرف الهزيمة ، إنه يعرف معنى الألم ، ويذوق مرارة الحرمان في أشد صوره قسوة ، ولكنه دءوب مصمم ، مغامر ، لا ينفذ له صبر [35] . فالبطل في السيرة لا يتنازل عن أهدافه ، ولا يتراجع عن خوض الصراع مهما كانت ضراوته ومهما كانت العواقب ، وهو يبذل في هذا السبيل كل الجهد اللازم ، وقد تعترضه بعض الهزائم والإحباطات لكنه يتجاوزها كي يحقق النصر في النهاية . وهذا ما حاول أن يؤكد عليه ويبرزه السيد حافظ في المسرحية ، وكما يظهر في المغامرات الثلاث التي قام بها عنترة واستطاع في النهاية أن يحقق النصر رغم كل المعوقات والعقبات التي صادفته . ويقول د. عبد الحميد يونس " إن البطل الشعبي في السير يختلف عن البطل التراجيدي في أنه لا يتعقبه خطأ وقع فيه أو قام به ، ولا يأخذ في مصارعة القدر ، لذلك تختلف النهاية لكل منهما ، فبطل الملحمة والسيرة ينتصر ، والبطل التراجيدي ينهزم " [36] .




6 - البطل مضطهدا اجتماعيا :

يتمتع البطل في معظم السير الشعبية بمميزات ومؤهلات خاصة ، ولكنه في الوقت نفسه يرزح تحت وطأة مجتمع جائر يسلبه حريته أو يقلل من شأنه ويضطهده ، ومن هنا تنشأ فكرة تحفيز البطل لخلق صراع مع القوى الاجتماعية المعادية فيه حيث يرتبط هذا التحفيز بقضية ذاتية ، تعكس رغبة البطل في التحرر وتأكيد الذات ، ويرتهن تحقيق هذه القضية الذاتية بتغير بعض الموضوعات الاجتماعية الجائرة ، وتبني البطل لأهداف الجماعة ، من هنا تظهر النزعة الإصلاحية في نضاله ، حيث يصبح سعي البطل لخلاصه الفردي متوافقا مع تحقيق حلم الجموع العريضة بالخاص والتحرر ، ومن ثم تتخلص هذه القضية من طابعها الذاتي والفردي ، وتتحول إلى قضية عامة وكلية [37] .

وعلى سبيل المثال فإن قضية القبول الاجتماعي هي العنصر الفعال في تحفيز البطل في سيرة عنترة ، وهي القضية التي حاول السيد حافظ إبرازها والتأكيد عليها في المسرحية ، فبرغم تميز عنترة من ناحية النسب ، وفي فنون القتال والفروسية ، فإنه ينتمي إلى طبقة العبيد ، وذلك بسبب لونه الأسود ، ووصمة العبودية والرق التي لحقت بأمه عقب سبيها ، ولهذا فإن أباه ينكره ويرفض الاعتراف ببنوته ، كما أن مشاعره تجاه عبلة ابنة عمه لا تجد قبولا لدى الجماعة . ففي سيرة عنترة تأخذ قضية القبول الاجتماعي طابعا فرديا وذاتيا ، ويسعى عنترة لتأكيد وضعه الاجتماعي عن طريق تميزه في فنون القتال والفروسية ، ودفاعه عن هذه الجماعة التي تضطهده ، ولهذا فإن انتصاراته وبطولاته قد دفع بالجماعة إلى الاعتراف به والإيمان بتميزه ، الأمر الذي أدى في النهاية إلى قبوله اجتماعيا . يقول عبد الحميد يونس عن عنترة " أن لونه الأسود ظل كحاجز بينه وبين الآخرين ، بل ظل كعلامة تعبر عن أصل مختلف، ولابد لمثله أن يحدث عملا خارقا يرغم به المجتمع لا على الاعتراف بمساواته، ولكن بامتيازه" [38] ، وقد استطاع كما رأينا ذلك من خلال أحداث المسرحية أن يحقق النصر .

7 - البطل يحظى بالمساندة الإلهية :

يحظى البطل في السيرة بالمساندة الإلهية والقوى العلوية ، حيث تناصره السماء، وتبارك جهاده من أجل تحقيق غاياته النبيلة والسامية ، وفي إطار حركة البطل داخل السيرة الشعبية تتضامن السماء مع كفاحه ونضاله ، فهو كما يشير شكري عياد " رجلها الذي يعمل لخدمة رسالتها ونشرها بين قومه ، وإرساء قيم الخير التي تفرضها بين أفراد جماعته ووطنه ، وتقر به هذه الرسالة ذات الصفة النفعية للجماعة من البطل الأسطوري الجمعي ، والذي يأتي تعبير عن الجماعة أو عن وظيفة اجتماعية " [39] . كما يحظى البطل بمآزرة الأولياء والصالحين ، وتظهر كرامات الأولياء في أوقات كثيرة كي تؤازر البطل وتسانده في الأوقات العصيبة . ويظهر هذا جليا واضحا في سياق المسرحية عند ظهور الرجل العجوز الذي ساق إلى عنتر الحكم الثلاث مقابل الخبز الذي أخذه منه . تشير نبيلة إبراهيم إلى أن التعبير عن مساندة القوى الغيبية للبطل نابعة من إحساس الإنسان الشعبي بوحدة الوجود ، وذلك أن الإنسان الشعبي لا يعيش الحياة كما يفعل الإنسان المعاصر بوصفها جزئيات منفصلة ، بل لأنه يعيشها بوصفها وحدة واحدة[40].

ثانيا : البطل المساعد :

في إطار حركة الصراع ما بين البطل والقوى المعادية ، تظهر العديد من الشخصيات المساعدة التي تقف إلى جانب البطل وتسانده في كفاحه ضد قوى الشر .

يقول أحمد علي مرسي أن " معظم هذه الشخصيات المساعدة من إبداع الخيال الشعبي ، حيث تضيف روايات السيرة من الشخصيات ما لم يعرفه التاريخ ، وتجعل لها من الأدوار ذات الأهمية ما يؤثر في سير الأحداث [41] .

ووجود البطل المساعد هو تقليد متبع في كل السير الشعبية ، وتجد مثالا له في سيرة عنترة أخاه شيبوب . يرى كمال الدين حسين " أن العلاقة بين البطل والبطل المساعد تبدأ في أغلب الأحيان في مرحلة التكوين لكليهما . ويتم تكوينهما البطل والبطل المساعد – معا في ظروف تجعل التجاوب الذي ستشهده في باقي السيرة طبيعيا ومفهوما " [42] . و تتمتع شخصية البطل المساعد بمقومات خاصة ومواهب فريدة ، فهذه الشخصية الجانبية تمثل في الحقيقة الجانب الذي يعتمد على ذكائه ومهارته في البطولة ، في الوقت الذي يمثل فيه البطل القوة الجسدية والمهارات العسكرية ، فكأن البطل مع هذه الشخصية الجانبية يكونان معا صورة متكاملة لمعنى البطولة ومقوماتها ، القوة والجدية في جانب والحيلة والسخرية في جانب آخر ، وهما معا يكونان كلا متكاملا بكل هذه المواهب المتضافرة على أعداء البطل [43] .

وفي سيرة عنترة نجد شخصية شيبوب ، وقد كان رفيقا لعنترة بحكم الأخوة والصداقة ولكن السيد حافظ لم يظهر هذه الشخصية بأي مظهر من مظاهر التفرد ، ولم يؤكد على ذكائها ومهارتها في البطولة ، ولكنه ركز على الجانب الكوميدي في هذه الشخصية ، فشخصية البطل المساعد كما يشير فاروق خورشيد هي " شخصيات كوميدية قادرة على توليد الفكاهة وخلق المواقف الضاحكة والسخرية بأعداء البطل ، وقد تنبع هذه الكوميديا من الشخصية ذاتها بحكم تكوينها الذي يثير الضحك كشخصية شيبوب [44] . ونلاحظ من خلال المسرحية العديد من المواقف الكوميدية التي يفجرها شيبوب .

وهذه الشخصيات كما يشير محمد حافظ دياب ما هي إلا " نماذج بشرية يصارع وتهزم ويتولاها الضعف البشري، وهو ما يعمل على الاقتراب بالسيرة من المنطق الإنساني"[45].

الإطار الفكري للمسرحية :

يحاول الكاتب من خلال هذه المسرحية أن يطرح عدد من القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية؛ فالمسرحية عبارة عن خطاب متنوع الأبعاد والدلالات .

فهناك البعد الاجتماعي والثقافي المتمثل في الاعتراف الضمني بصدمة الحداثة والثقافة الغربية المعاصرة التي أدت إلى طمس معالم الحضارة العربية بشتى الوسائل ، وهو ما يهدد الثقافة والتراث العربي ، وينبه المسئولين والقائمين على ثقافة الطفل بضرورة التصدي لهذه الثقافة الدخيلة التي لا تعبر عن حضارتنا ، فالكاتب يحاول أن يعكس واقع الحياة المعاصرة للأطفال .

كما أن الكاتب يضمن المسرحية خطابا تربويا يهدف إلى ترسيخ الأخلاق الحميدة لأنها أساس المجتمع الفاضل مثل الصدق والعدل والأمانة والصبر والإرادة القوية والشجاعة .

ويطرح أيضا خطابا سياسيا يستمد قوته من الأحداث التي تحمل معاني ودلالات التحرير و الانعتاق من الأسر ، و يتضح ذلك من بعض المفردات التي تفيد هذه المعاني مثل ( حارب – قاتل – يحرر الوطن – يحررنا جميعا – السيف – ننقذ الوطن – الأعداء).

كما يتضح من سياق المسرحية محاولة المؤلف حث الطفل على ضرورة المطالبة بالحرية للنفس وللوطن – كما فعل عنتر – وفي ذلك إشارة على أن الطفل في نظره مستعبد ثقافيا وحضاريا واجتماعيا ، وعليه أن يفك قيد الأسر ويتحرر من هذه التبعية .

كما تزخر المسرحية بالعديد من القيم الوطنية والأخلاقية ، والنصائح الثمينة التي يوجهها المؤلف إلى الطفل كقيمة العلم والعمل ، بالإضافة لما سبق فإن المؤلف يهدف بهذا العمل إلى تحقيق التواصل بين الطفل العربي وبين تراثه والتعريف به .

الصراع :

الصراع في هذه المسرحية ينقسم إلى :

1 – صراع داخلي . 2 – صراع خارجي .

1- الصراع الداخلي :

يصور المؤلف منذ البداية الصراع النفسي للبطل " عنترة " وإحساسه بالغربة والضياع داخل قبيلته بسبب عدم الاعتراف ببنوته من قبل أبيه ؛ إلى جانب المفارقات الكائنة بينه وبين شباب القبيلة المتنافسين على الزواج من عبلة ، فصراع البطل هو صراع داخلي بسبب الظلم الذي يعانيه داخل مجتمعه الذي لا يعتمد إلا على القوة والعنصرية . وفي سبيل تجاوز هذا الوضع ، فإن عنتر يعرض نفسه للعديد من المخاطر والصعاب من أجل التحرر و الانعتاق من العبودية ، كما يظهر لنا هذا الصراع النفسي عندما يعرض نفسه للجوع والضياع ببيعه للخبز الذي كان معه من أجل شراء الحكم التي استفاد منها في رحلته .

2- الصراع الخارجي :

يتحول الصراع من صراع داخلي إلى صراع خارجي بين قبيلة عنترة والأعداء الذين أسروا كل الشباب والفرسان حتى إنه لم يبق في القبيلة غير العجائز والأطفال ؛ ولفك القيد عنهم يطلب الأعداء الفدية ، التي يرحل عنترة للبحث عنها ، ويعيش مغامرات مليئة بالصراعات وتحول المسرحية بالصراعات المتعددة التي تعكس الواقع العربي بشكل واضح . فنجد على سبيل المثال الصراع الثقافي بين ما هو عربي محض ، وبين ما هو غربي ودخيل – كما أوضحنا في تحليلنا للنص – والذي نستدل عليه بارتباط الأطفال بالثقافة الأجنبية ، في الوقت الذي يرغب فيه الآباء تعريف الأطفال بتراثهم .

ونتوقف عند نقطة مهمة ؛ وهي أن الصراع بين الشخصيات في المسرحية لم يكن صراعا متكافئا . وقد كان الانتصار- انتصار البطل عنترة في كل معركة من المعارك التي خاضها نتيجة لاستخدامه لقيم العقل و الحكمة ، وهو ما أراد المؤلف أن يؤكد عليه و يبرزه للأطفال .

- اللغة في المسرحية :

اعتمد الكاتب في هذه المسرحية على اللغة النثرية التي تتميز بالتقرير و الوضوح و المباشرة ، وهي لغة تتميز بالبساطة و السهولة ، وهذا يرجع لإدراك الكاتب أن هذا العمل موجه لأطفال ، وذلك يتطلب نوعا من الأداء اللغوي الذي يتميز بالتكثيف والوضوح.

عم سالم : هذه زبيبة أم عنتر . عبدة سمراء جميلة . من أجمل النساء السمراوات طيبة – حنونة عبدة شداد . وأم عنتر – شيبوب أخو عنتر من أمه – مات وبعدها أصبحت زبيبة عبدة شداد و أنجبت عنتر . والآن يا أطفال . عنتر و شيبوب أخوان صديقان عزيزان . ودعونا نكمل الحكاية يا أطفال [46] .

فلغة المسرحية تبتعد عن المنطق اللغوي للسيرة الشعبية الذي يعتمد على عناصر الزخرفة اللغوية والمحسنات البديعية .

" وثب الحارس بن عبادة في عاجل الحال وركب ظهر مهر أدهم كأنه الليث القشعم، وكان هذا المهر يشبه لون الظلام أو كأنه قطعة من الغمام ، وكانت أم هذا المهر يقال لها نعامة ، وكانت تضرب بها الأمثال في أرض تهامة ويفتخر بها أهل اليمامة " [47] .

وفيما يخص لغة الحوار الذي يعتبر الوسيلة الوحيدة للتواصل بين الشخصيات وإبراز الصراع الدائر بينها ، نلاحظ أن المسرحية تعتمد على الحوار المعبر عن الحالات الشعورية التي تعيشها كل شخصية . كما يلاحظ على الحوار قصره ، واستخدام المؤلف لأساليب النداء والاستفهام بالإضافة إلى الأمر والنهي والتعجب .

عنتر : ما هذا ... حية !
الحية : من أنت يا إنسان ؟
عنتر : حية تتكلم !
الحية : تكلم من أنت ؟
عنتر : أنا عنتر بن شداد .
الحية : ولماذا أتيت ؟
عنتر : أبحث عن التفاحات الذهبية .. ثلاث تفاحات ذهبية [48] .

مسرحية أبو زيد الهلالي [49] :

يستند السيد حافظ في هذه المسرحية إلى السيرة الهلالية ، ويستوحي فكرته المحورية منها ، ويعنونها باسم أحد أبطالها البارزين وهو أبو زيد الهلالي ، والسيرة الهلالية هي واحدة من السير الشعبية العربية التي ارتبطت بشبه الجزيرة العربية [50] .

يحاول السيد حافظ في هذه المسرحية كما فعل في مسرحيته السابقة " عنتر بن شداد " أن يقدم لعالم الأطفال نموذج من نماذج البطولة التي يزخر بها الأدب الشعبي ، ويتمثل هذا في شخصية " أبو زيد الهلالي " ؛ كما يحاول أن يقدم للأطفال بعض المفاهيم ويؤكد على بعض القيم الإيجابية ، والتي سنحاول أن نوضحها من خلال تحليلنا لهذا العمل .

أولا : موضوع المسرحية :

تتكون مسرحية " أبي زيد الهلالي " من فصلين :

في الفصل الأول يطالعنا حصان أبي زيد الهلالي ، وهو يقوم هنا مقام الراوي ليقص علينا حكاية من حكايات الهلالي . وها نحن في شبه الجزيرة العربية حيث القحط والجفاف والجوع يلم بسكان شبه الجزيرة ؛ فيجتمع كل من الأمير أبو زيد الهلالي بالملك حسن بن حسان والأمير دياب بن غانم ليتشاوروا حول البقاء في أرضهم أم يرحلون منها إلى تونس الخضراء .

وفي أثناء هذا الاجتماع ينتقل بنا المؤلف إلى مشهد آخر نتعرف من خلاله على الحالة التي يعيشها أهل الجزيرة من جوع وفقر ، فها نحن أمام خيمة الأمير مفرج بن نصير حيث لا يوجد مال أو طعام . يخرج أبي زيد ودياب في ملابس تنكرية لمعرفة رأي أمراء العرب في الترحال ، ويذهبون في بادئ الأمر إلى خيمة الأمير مفرج بن نصير كضيفين أتا من بلاد بعيدة . يبحث الأمير مفرج عن طعام أو شراب لإكرام الضيفين فلا يجد ، فتشير عليه زوجته بأن يبيع ابنته الثريا ليأكل بثمنها الضيفان ؛ وفي مشهد يشبه الحلم يتخيل الأمير مفرج هذا الموقف حيث لا يجد من يشتري ابنته ، فيذهب بها إلى الملك حسن بن حسان الذي يتعجب من فعله ، ويعطيه كيلين من القمح وعنزة وفرسه كي يكرم ضيوفه دون أن يبيع ابنته .

يفيق الأمير مفرج من حلمه وخيالاته ليصرح للضيفين بالحقيقة ، وبأن ليس لديه ما يقدمه لهم سوى نفسه ؛ وهنا يكشف له أبو زيد حقيقة الأمر ،فيقرر مفرج السفر معهم . ثم ننتقل بعد ذلك إلى بلاد الأمير مغامس الذي يتأهب للزواج من ابنه عمه " شاه الريم " ، لكن يحدث ما يعكر إتمام هذا الزواج حيث يحضر الأمير نبهان عدوهم الذي يقوم بمساومة الملك أبو الوجود والد الأمير " شاه الريم " على الزواج منها بدلا من الأمير مغامس و إلا سيعلن الحرب بين القبيلتين ، ومع رفض الملك أبو الوجود وابنته " شاه الريم " تنشب الحرب ، فيموت أبو الوجود ويصاب الملك عامر .

وعندما يقرر الأمير مغامس الخروج للقاء العدو يتطوع حارسه " سعيد " ، وهو أحد الفرسان الشجعان بالخروج لقتل نبهان ؛ وبالفعل ينجز المهمة التي خرج لأجلها ، فيقرر الملك عامر أن ينصبه ملكا على البلاد لمدة عام ، حتى يبلغ ابنه الأمير مغامس السن القانونية التي تؤهله لاعتلاء العرش . وعندما يموت الملك عامر ، تظهر شخصية " سعيد " الحقيقية حيث يطالعنا بخبايا نفسه ، و مطامعه القديمة باعتلاء العرش ورغبته في أن يصبح الحاكم الفعلي للبلاد . وحتى يتحقق له ما يريد يأمر بنفي الملك مغامس وأمه في قصر بعيد ، ويأمر جميع الأمراء و الأبطال والفرسان بعدم احترامه ؛ كما يقرر الزواج من الأميرة شاه الريم عنوة ، ولكنه يرتاب عندما يستشير الساحر في أمر زواجه الذي يصرح له بأن هذه الزيجة لن تكتمل بسبب حضور أبي زيد و دياب .

وفي الفصل الثاني يصل كل من أبي زيد ودياب فيتم القبض عليهما ، ولكنهما يحاولان إقناع سعيد بأنهما ليسا سوى " سالم و سلمان " الشاعران ، ولكن سعيد لا يصدقهما . وفي هذه اللحظة تحضر أم مغامس مطالبة بحق ابنها في العرش الذي اغتصبه سعيد ، فلا يكون من أبي زيد ودياب إلا أن يوافقا سعيد على كل ما يقول كما ينصحه أبو زيد بقتلها ؛ وهنا يتأكد سعيد أنهما لا يكذبان ، فيأمر بفك القيود عنهما ، وتركهما يتجولان بحرية كما يشاءان .

ويلتقي أبو زيد ودياب بالأميرة شاه الريم أثناء تجوالهما ، ويطلبان منها أن تبعث برسالة للأمير مغامس تطلب منه فيهما أن يجهز مائة صندوق كبير في الحال ، بالإضافة إلى تجهيز الفرسان الشجعان بالسيوف والدروع ، وتقدم الملكة بمساندة ابنها مغامس بالمال لتجهيز المطلوب ، ويأمر سعيد الذي يستعد للاحتفال بزفافه كل من يأتي إلى القصر أن يترك سيفه بالخارج ، وعندما يعلم أبو زيد بذلك يطلب من الأميرة شاه الريم أن ترسل لمغامس بإحضار منوم كي يضعه للحراس في الشراب ، وبالفعل تنجح الخدعة التي دبرها أبو زيد ودياب حيث ينام جميع الحراس ، وتدخل الصناديق والجمل الخشبي الذي أعده مغامس ، ويتم الاستيلاء على القصر ومحاصرة سعيد .

- أسلوب السيد حافظ في تناوله للسيرة الهلالية :

اعتمد السيد حافظ على تطويع التراث الشعبي المتمثل في السيرة الهلالية خدمة للنص المسرحي ، وارتكز في ذلك على عنصر البطولة متمثلا في شخصية " أبي زيد الهلالي " . فالأبطال في السيرة الهلالية هم فحول من الفرسان ؛ بمعنى أن الأسس الرئيسية لهذه السيرة هي " الفروسية " .

وقد كان الفرس عنصرا أساسيا له دوره الفعال في سير الأحداث في السير الشعبية والسيرة الهلالية على وجه الخصوص ، " فالخيل هي أكثر ما اعتز به العرب وما أكثر ما نسجوا حولها من أساطير وحكايات ، وساوى العرب في هذا كل الشعوب التي عرفت الفروسية ، وعاشت شاكية السلاح فامتلأ أدبها الشعبي وامتلأت أساطيرها بصور الخيل و أنواعها وفضائلها " [51] . ويبرز لنا المؤلف أهمية الفرس في سيرة أبي زيد الهلالي من خلال المشهد الافتتاحي للمسرحية :

الحصان : أنا حصان أبي زيد الهلالي .. في الحكاية القديمة كانت فرسة أما في حكايتنا هذه حصان .. أنا الحصان الذي عاش مع أبي زيد الهلالي الحروب الكبيرة والحكايات الكثيرة أحداث كثيرة وكبيرة .. ولكنني الليلة يا أولادي الأعزاء سأحكي لكم حكاية واحدة وربما حكايتين من هذه الحكايات كان يا ما كان .. في جزيرة العرب [52] .

ويوضح لنا هذا الاستهلال المكانة التي كان يحتلها الفرس في العصور القديمة . كما يستعيض المؤلف هنا بالحصان ليحل محل الراوي في السيرة الشعبية ، حيث ترد على لسانه حكايات أبي زيد الهلالي ، وهو استهلال طيب من المؤلف ، لأنه يجذب انتباه الطفل ويشده لمتابعة أحداث المسرحية .. كما يؤكد لنا أن الفرس كان رفيق وأنيس أبي زيد في جميع معاركه وحكاياته ومغامراته .

كما يعد استخدام الحيوان والمتمثل هنا في الحصان ، وكما سنرى فيما بعد – الكلب مزيون – كرواة للأحداث عنصرا من عناصر الفرجة الشعبية ، وهي من الشخصيات التي يعدها د. أبو الحسن سلام ، " شخصيات تثير الدهشة وتعد مثارا للفرجة. فإن ما يصدر عنهم من قول أو فعل فيه ما يثيرنا ويمتعنا أو يفرج عنا ويدعونا للتأمل [53] ".

وفي البداية يصور الكاتب للطفل العربي حال شبه الجزيرة العربية في تلك الفترة ، التي كانت تعاني من الجوع والفقر والحاجة ؛ وقد جاء ذلك على لسان المجموعة ، وهم سكان الجزيرة العربية للملك حسن بن حسان حاكم قبائل بني هلال في شكل استعراض غنائي يشارك فيه معهم الحصان .

وهدف الكاتب إبراز حالة العرب آنذاك فيجعل الطفل يقارن بين حياته الحاضرة وما توفر له من أسباب الراحة والعيش في استقرار ورفاهية ، ونعم الله التي أنعمها عليه في مجتمع متطور بفضل التقدم التكنولوجي العلمي بصفة عامة وبين الحياة السابقة القاسية .

كما يبرز الكاتب للأطفال صفة من الصفات التي يتحلى بها العربي رغم الفقر المدقع ، وهي صفة الكرم التي يظل محافظا عليها ومتمسكا بها حتى ضرب به الأمثال في الكرم وحسن الضيافة إلى درجة التفكير في بيع ابنته من أجل الإتيان بالطعام لإكرام الضيوف ، كما ورد في مشهد من مشاهد المسرحية صاغه المؤلف ليعبر به عما يدور في عقل الأمير " مفرج بن نصير " ، حيث تنصحه زوجته ببيع ابنته ليأتي بالمال أو الطعام إكراما للضيوف .

بهي : ماذا ستفعل ؟
مفرج : هل لديك شيء نبيعه ؟
بهي : لا يوجد أي شيء يباع إلا أنا وأنت والثريا .
مفرج : الثريا ( وكأن فكرة جاءت إليه ) .
بهي : الثريا ( تؤكد الفكرة ) اسمع يا معرج . بع ابنتك الثريا وبثمنها يأكل
الضيوف .
مفرج : ( يحدث نفسه ) الثريا ابنتي الوحيدة . ابنتي العزيزة كيف أبيعها
وهذان الضيفان إذا خرجا من بيتي دون طعام ستكون فضيحة أمام
العربان . الأمير مفرج بن نصير يأتيه الضيوف جوعى ويخرجون
جوعى . يا فضيحتي يا إلهي ماذا أفعل ؟ أأبيع ابنتي ؟
( يحلم مع إضاءة خضراء تغطي المسرح وقد شاهد ما قد يحدث ).
بهي : ماذا قلت ؟
مفرج : هذا رأي صواب .. نعم الرأي .. قومي وأصلحي شأنها وألبسيها
أفضل الثياب حتى أبحث في البيوت في كل قبيلة . أبحث عن
مشتر لها [54] .

ويتبين لنا من خلال قراءتنا للنص المسرحي أن المؤلف يريد أن يبين للطفل أن الشر يبحث دائما عن الفرصة لكي يسطو على الخير والحق ؛ وإذا لم يواجه هذا الشر بالصمود والتحدي يظل هو السائد والمتسلط . والشر في المسرحية يمثله " سعيد " الذي قام باستغلال الظروف وموت الملك إثر جراح قوية أصابته في الحرب لينتزع الحكم من الأمير الشاب " مغامس " غصبا ، وبدأ في ممارسة جبروته وسطوته لأنه لم يجد من يواجهه بحزم وقوة .

سعيد : ( يحدث نفسه ) إيه .. هذا ما كنت أحلم به . الكرسي . العرش .
إني حررت نفسي بقوتي .. بسلاحي .. وها قد انتصرت على
نبهان وحصلت على كرسي العرش وأصبحت ملكا وسأقبض على
كل شيء بيد من حديد وسأقتل كل من يقف أمامي حتى ولو كان
مغامسا وأمه العجوز .. يا حارس ..
الحارس : أمر مولاي .
سعيد : ينتقل الأمير مغامس إلى قصر الحمام .
الحارس : هذا القصر بعيد .
سعيد : ومعه أمه .
الحارس : وهذا القصر ؟
سعيد : يصبح لي [55] .

لكن الأمير مغامس رغم قلة تجاربه لا يريد الاستسلام للظلم ولسيطرة سعيد بل يؤكد للأميرة شاه الريم رغبته في الصمود والاستماتة والتمسك بالأمل ، ولن يأتي ذلك إلا بحمل السلاح ، وهذا ما يظهر جليا في الحوار التالي :

شاه الريم : يا مغامس .. يا بن عمي .
مغامس : يا ابنه عمي .
شاه الريم : هيا بنا نترك هذه البلاد ونهرب .
مغامس : نترك بلادنا ؟ لمن لسعيد ؟
شاه الريم : إنه لئيم وناكر للجميل .
مغامس : لا يا ابنة عمي لا نترك أرضنا للغريب .. لا نتركها .. بل نقف ونحارب [56] .

ولكن رغم هذا الموقف الصريح للأمير مغامس إلا أنه يبدو لنا في كثير من الأحيان متذبذبا ، فتارة يبدو قوي العزيمة وصلب الإرادة وتارة ضعيفا خائفا ينتظر المهدي المنتظر " أبو زيد الهلالي " معولا على نبوءة الساحرة ، وفي هذا تأكيد على اعتقاده بالسحر والخرافة مبتعدا عن الواقع ، وما يتطلبه من مواجهة حقيقية وعاجلة . يشير فاروق خورشيد إلى أن العرب قد عرفوا الكهانة ويضيف أن الأصل في كلمة الكهانة التكهن بالشيء والتنبؤ به [57]. وعندما دخل الإسلام فقد حرمت الكهانة . ويريد الكاتب أن يؤكد للأطفال عدم الاعتماد على الخرافات من خلال شخصية الأم التي تزود مغامس ببعض من تجاربها ، فتدفعه إلى الاعتماد على الله أولا ثم الاعتماد على نفسه واكتساب حقوقه أيضا بنفسه ، وتنبهه إلى أن القوة الحقيقية هي الشعب ، لهذا لابد من اكتساب الشعب في صفه وهذا ما يظهر في الحوار التالي:

مغامس : ( يدخل ) أمي .. أمي ..
الأم : مغامس .. ماذا حدث ؟
مغامس : جاء الفرج .
الأم : من أين يجيء والأميرة شاه الريم ستتزوج من سعيد ؟
مغامس : ظهر أبو زيد الهلالي .
الأم : أبو زيد الهلالي ؟
مغامس : من دلني الساحر عنه .. جاء .
الأم : وماذا سيفعل ؟
مغامس : سيحررنا من الملعون سعيد .
الأم : وأنت تنتظر من يحررك يا أمير يا بن الأمير . أين شجاعتك أين ؟
مغامس : يا أمي .. كيف تقولين إني جبان ؟
الأم : أنت قلت هذا بأنك تنتظر أبا زيد .
مغامس : أبو زيد سيكون عونا لي .. والنبوءة قالها الساحر .
الأم : لا تصدق كلام الساحر واعتمد على الله ثم على نفسك .
مغامس : ليس معي رجال ولا أعوان .
الأم : معك الله .. معك الحق .. معك عزيمتك وشبابك .. معك شعبك .. معك
أهلك .. معك العرب الشرفاء .
مغامس : لكن .
الأم : هل سننتظر أبا زيد الهلالي ليحل لك مشاكلك ؟
مغامس : ليساعدني .
تحرك يا أمير قبل أن تضيع شاه الريم وتضيع الإمارة .

ونلاحظ مما سبق أنه على الرغم من أن استشارة السحرة والعرافين في العصور القديمة كان معمول به وكانوا يعتقدون في نبوءاتهم ، فالباحث يرى أن المؤلف قد حالفه التوفيق في هذا المشهد الذي حاول أن يدحض هذه الفكرة ، وكما جاء على لسان الأم في نصيحتها لابنها " لا تصدق كلام الساحر واعتمد على نفسك ، وكأن لسان حالها يقول " كذب المنجمون ولو صدقوا " . فهي تريد أن تقوي بداخله النزعة الإيمانية بالخالق سبحانه وتعالى ؛ والاعتماد عليه وحده .
ومن خلال تناول المؤلف لسيرة " عنترة : نستخلص بعض الأهداف التربوية التي أراد أن يؤكد عليها لدى الأطفال ، وتتلخص في النقاط الآتية :

1. تعريف الأطفال بأبطال التاريخ العربي قبل معرفتهم بأبطال الحكايات الأجنبية مثل سباستيان وريمي وجونكر .
2. حث الأطفال على طاعة الوالدين .
3. العمل على التضحية في سبيل الوطن مهما كانت الظروف ، ومهما كان الوطن لا يعطينا مانريد.
4. نسيان الخلافات فيما بيننا وقت الشدة ، والاتجاه نحو الهدف الإنساني الأعلى .
5. التأكيد على أن الرجولة تقاس بالأعمال وليس بالمال أو الجمال أو بقوة العضلات.
6. الابتعاد عن الطمع .
7. حرية المرأة في إبداء الرأي وخاصة في اختيار شريك الحياة .
8. التأكيد على قيمة العلم ؛ فالعلم نور .

- الصراع في المسرحية :

الصراع في هذه المسرحية يدور حول عدد من المحاور . المحور الأول هو صراع الجماعة ممثلة في أبي زيد ودياب من أجل البقاء . كما أن هناك عدد من المحاور الفرعية التي تعوق حركة الصراع الرئيسي في المسرحية مثل صراع مغامس من أجل استرداد العرش ، والذي ينساق أبو زيد ودياب معه طوال الفصل الثاني لمساعدته من أجل الحصول على هذا الحق . فتنتهي أحداث المسرحية دون أن نعرف مصير الجماعة التي تركها أبو زيد ودياب ورحلا إلى هذه البلاد . فلابد أن يتساءل الطفل لماذا كان الرحيل هل هو من أجل خلاص شعبهم من المحنة التي يمرون بها أم من أجل الدخول في مغامرات من أجل تخليص شعب آخر مما يعانيه .

- اللغة والحوار :

يستبدل الكاتب في هذه المسرحية اللغة الشعرية للسيرة الهلالية باللغة النثرية البسيطة كما فعل من قبل في عنتر بن شداد ، فاللغة تميزت بالبساطة وسهولة المفردات المستخدمة والتي تتناسب مع المستوى العقلي للأطفال . فلغة الحوار خالية من التعقيد والابتذال . إلى جانب قصر العبارات ، وتميزها بالإيقاع الموصول بالموضوع ، وبناؤها على جمل متكاملة .

فجمل الحوار تأخذ شكل العبارة في كلمة واحدة ثم تتدرج لتصبح كلمتين فأكثر ثم يأخذ شكل التبادل المستمر بين الشخصيات ؛ وهو ما يجعل الطفل لا يشعر بالملل بل تشعره بحالة من الحركة والحيوية وعدم السكون .

- الشخصيات في مسرحية أبو زيد الهلالي :

سعي الكاتب للاحتفاظ بالخصائص والسمات المميزة لبعض الشخصيات في إطار السيرة الهلالية مثل شخصية أبو زيد الهلالي ، حيث يظهر جانب البطولة والشجاعة ، كما أنه يتفق إلى حد كبير مع النموذج العام للبطل في السيرة ، فالبطل في المسرحية هو أكثر الشخصيات تميزا ، وهذا الامتياز يؤهله لمرتبة الصدارة بين قرنائه و أنداده ، وتتحقق له نفس عناصر الامتياز التي تميز شخصية البطل في السيرة ، حيث يتفوق أبو زيد في مجال القتال والفروسية .

وأبو زيد في المسرحية – كما هو في السيرة – يتمتع بقدرات ذهنية فائقة ، كما أنه يجيد فنون التنكر و الخداع فهو يمتلك جراب الحيل ، وهو " جراب مليء بأدوات كثيرة منها الأصباغ و الأدهنة و الشعر المستعار والأزياء ، وكان يستطيع أن يصبغ جسده سبع صبغات ( وتبدل في سبع بدلات ) ، ولولا هذا الجراب ما استطاع أن يرتاد لقومه أرض المهاجر " [58] . يضيف فاروق خورشيد أن أبا زيد في السيرة الهلالية إلى جوار فروسيته وشجاعته هو " أبو الحيل " ، أو " صاحب الحيل والكيد " أو " صاحب المكر والكيد " .. وتسمى هذه المهارات بأنها مهارات الشطارة والعياقة [59] . ومما لا شك فيه أن التنكر وتقمص الشخصيات المختلفة يحتاج من الأبطال إلى مهارات جسدية ونفسية معينة ، كما أنه يحتاج إلى قدر كبير من المعرفة بالعادات والتقاليد للشخصيات والأزياء المختلفة إلى جانب معرفة اللغات واللهجات السائدة في كل عصر . ويشير فاروق خورشيد إلى أن أبطال السيرة حازوا هذه المهارات وهذه المعارف بعد عناء شديد في التحصيل والتعلم [60] .

وإذا ما عدنا إلى المسرحية نجد أبو زيد الهلالي يتنكر بصحبة دياب في هيئة شاعرين حتى لا يتكشف أمرهما .

والمسرحية لا تتضمن أية إشارة إلى تدخل السماء على نحو خارق لمساندة البطل، فالكاتب يحاول أن يجعل من بطله إنسانا عاديا لا يختلف في درجته عن باقي البشر ، لأن حضور العناصر الخارقة والميتافيزيقية تتعارض مع المنطق الفكري والعقلي الذي يسعى الكاتب إلى الاستناد عليه في طرح مقولاته ومقدماته ، وفيما يسعى إلى تأكيده للأطفال من قيم.

كما يلجأ الكاتب إلى ألسنة بعض الحيوانات مثل الفرس / حصان أبو زيد – وكلب مغامس – مزيون – وجعلها تسوق بعض حكايات أبو زيد على أساس أنها شخصيات قريبة من عالم الأطفال ، حيث أن الأطفال يتعلقون بالقصص التي تقوم الحيوانات بأداء أدوار الشخصيات فيها ، " وليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة إذ يبدو أن هناك نوعا من الصلة بين الأطفال وبين الحيوانات .. كما أنها تتيح للأطفال أن يمارسوا التخيل و والتفكير دون عناء لاعتمادها على الصور الحسية في التعبير " [61] . كما أن هذه الشخصيات تجعله يدخل في إطار الحكاية بسرعة – وكما أسلفنا القول – فإن هذه الشخصيات تعد مثارا للفرجة لأنها عنصر من عناصرها ، وهي من الشخصيات التي يعدها د. أبو الحسن سلام " شخصيات تثير الدهشة ، وتعد مثارا للفرجة . فإن ما يصدر عنهم من قول أو فعل فيه ما يثيرنا و يمتعنا ويفرج عنا ويدعونا للتأمل " [62] . ويضيف أن منبع الفرجة يكون بسبب إجادة الفنان أو المؤدي بالتجسيد أو بالتشخيص لهذه الشخصيات [63] . وهو أيضا ما ينطبق على شخصية الساحر ، الذي يدعي معرفة الغيب بملابسه الغريبة وتمتماته السحرية ؛ ولكن ما يحسب للمؤلف أنه استعان بهذه الشخصية لكي يؤكد للطفل بطريق غير مباشر عدم جدوى الاعتماد على الخرافات ، وأن الاعتماد يكون فقط على الله . وذلك على الرغم من أن الكهانة كما يشير فاروق خورشيد تتغلغل في المأثور الشعبي وتطرح نفسها على السير الشعبية كلها بلا استثناء ، كما أنها تعد ركنا أساسيا في السيرة الهلالية إذ لا يتم فيها حدث إلا بعد استقرار الطير أو الرمل ، لمعرفة الغيب، كما أن البطل نفسه أبو زيد كان يتنكر في زي عراف يضرب الرمل، ويتنبأ بالغيب[64] .

أما شخصية دياب في هذه المسرحية فقد استعان بها المؤلف كي تصبح الساعد الأيمن لأبي زيد الذي يشاركه في رحلته إلى البلاد السعيدة . فهو هنا مساعد البطل الذي يتمتع بمقومات خاصة ومواهب فريدة ، وكأن البطل مع هذه الشخصية الجانبية يكونان معا صورة متكاملة لمعنى البطولة ومقوماتها ، القوة الجسدية من جانب والحيلة والسخرية من جانب آخر ، وهما معا يكونان كلا متكاملا لكل هذه المواهب التي تتضافر على الأعداء .

أما شخصية مغامس ابن الملك عامر ، فهو ذلك الشاب الذي يغلب عليه الضعف لصغر سنه وقلة خبراته إلى جانب تمسكه بالخرافات التي تحول بينه و بين الفعل ، والتي تجعله ينحو نحو الاتكالية ، ولهذه ينأى بنفسه عن الانغماس في الصراعات ، ويبدو أمام المشكلات متخاذلا ضعيفا مسلوب القدرة على الفعل والمواجهة ، فهو لا يريد أن يسقط في دوائر الشر المتشابكة التي تلتف حول عنقه ، حتى أنه لم يبادر بأي فعل في مواجهة سعيد الذي سعى لاغتصاب عرشه ، بل إنه يركن إلى أقوال الساحر في انتظار المخلص المتمثل في شخص أبو زيد .

البناء الملحمي في المسرحية :

يرتكز البناء في هذه المسرحية على تقنيات الكتابة في المسرح الملحمي ، وهي التقنيات التي تستهدف تذكير المتلقي على نحو دائم بأن ما يحدث على خشبة المسرح هو نوع من التمثيل الذي يفتقد إلى الإيهام بصدق وقائعه ، وذلك حتى لا يندمج المتلقي مع أحداث المسرحية فيفقد منظوره النقدي تجاه القضايا التي يتناولها العمل المسرحي ، "حيث يحرص التغريب الملحمي ، على الاحتفاظ بوعي المتلقي في حالة يقظة دائمة من خلال مواجهته بقضايا جادة تتطلب التقييم والسعي إلى التغيير " [65] .

وهناك بعض التقنيات التغريبية التي وظفها السيد حافظ في هذه المسرحية لتحقيق الأهداف السابقة ، فهو يلجأ إلى تقنية " التاريخية " حيث يؤكد بريخت على تاريخية الأحداث لأجل أن يتيح للجمهور فرصة الحكم على هذه الأحداث بالنظر إلى بعده عنها زمنيا ، وبالتالي انفصاله عنها عاطفيا [66] .

وفي هذه المسرحية يستهدف الكاتب بمقولاته الواقع المعاصر ، ولكنه لا يعرضها في إطارها المعاصر ، بل يلجأ إلى الماضي البعيد الذي تصوره السيرة ، حيث سيبحث المتلقي / الطفل عن نقاط التماس بين الماضي والحاضر ، من خلال حالة الانفصال أو عدم الاندماج في أحداث المسرحية ، ومن ثم سيدرك أهمية التغيير وضرورته .

كما يلجا الكاتب إلى السرد وهو تقنية تغريبية " استعان بها بريخت طلبا لكسر الإيهام ، وتحقيقا للأثر التغريبي ، لما للسرد من طبيعة غير إيهامية ، إذ أن السرد يوقف تسلسل الأحداث المتجسدة ، ومن ثم يوقف اندماج المتلقي وإيهامه بأن ما يدور على خشبة المسرح هو حقيقة تتجسد أمامه آنيا " [67] .

ففي بداية المسرحية يظهر حصان أبو زيد الهلالي ليعرفنا بنفسه ، وليحكي عن أبي زيد الهلالي ، ويتداخل السرد والغناء مع التجسيد الدرامي . وفضلا عن التأثير التغريبي الذي يحدثه السرد ، فإن له أيضا دور إخباري يتمثل في التعريف بالوقائع والأحداث الماضية في حيز زمني قصير ، وبوساطة السرد يمكن للمسرحية أن تستوعب الحكاية التي يريد المؤلف سردها على الأطفال .

ومن المعروف أن العنصر الرئيسي للسيرة هو السرد الذي من خلاله يتم عرض أحداث السيرة ، ومن ثم تتفق المسرحية جزئيا مع أسلوب التعبير في السيرة .
















[1] رمسيس عوض : موسوعة المسرح المصري الببلوجرافية ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1983 .
[2] كمال الدين حسين : التراث الشعبي في المسرح المصري الحديث ، القاهرة الدار المصرية اللبنانية ، ص 178 .
[3] قدمت مسرحية عنتر بن شداد عام 1989 ، بالكويت من إخراج أحمد عبد الحليم .
[4] نبيلة إبراهيم : البطولة في القصص الشعبي ، القاهرة ، دار المعارف ، 1977 ، ص 24 .
[5] انظر المرجع السابق ذاته .
[6] ونجد مثالا على ذلك في سيرة الزير سالم وعلاقة الحب بين كليب وجليلة ، كما نجد صورته في منية النفوس ، في سيرة سيف بن ذي يزن ، المرأة المحبة التي تقاتل إلى جوار حبيبها وزوجها الملك سيف ، ونجد صورتها كذلك في الأم المحبة الفارسة المقاتلة التي ترتدي زي الفرسان في شجاعة لتخلص ابنها من كل مأزق ممثلة في فاطمة أم على الزيبق في السيرة الشعبية المعروفة باسمه .
[7] انظر : هادي نعمان الهيتي : أدب الأطفال ، القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ص 39 .
[8] المرجع السابق نفسه ، ص 48
[9] انظر : فاروق خورشيد : الحب والجمال في السير الشعبية ، القاهرة دار الهلال ، 1987 ، ص 67 .
[10] انظر : هادي نعمان الهيتي : أد ب الأطفال ، مرجع سبق ذكره ، ص 49 .
[11] السيد حافظ ، عنترة بن شداد. رؤيا ، مكتبة الوطن العربي ، الإسكندرية ، 1990 ، ص 11 .
[12] محمد الهلالي : أدب الطفل والتنشئة الاجتماعية ، المغرب ، أفاق تربوية ، العدد 4 ، 1991 ، ص 41 .
[13] انظر نزيهة بن طالب وشنايف الحبيب ، الشخصية التراثية الشعبية في مسرح الطفل بالكويت ، القاهرة ، العربي للنشر والتوزيع ، 1996 ، ص 107 .
[14] السيد حافظ : عنتر بن شداد ، المصدر السابق ، ص 12 – 13 .
[15] المصدر السابق ، ص 10 – 11 .
[16] انظر " بيتر سليد " : دراما الطفل. ت د . كمال زاخر ، الإسكندرية ، منشأه المعارف ، 1977 ، ص 3 : 18 .
[17] انظر يعقوب الشاروني : الدور التربوي لمسرح الأطفال ( الحلقة الدراسية حول مسرح الطفل ) القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1986 ، ص 171 .
[18] السيد حافظ : عنتر بن شداد ، مصدر سبق ذكره ، ص 12 .
[19] مصطفى يوسف منصور : الارتجال في الظاهرة المسرحية الشعبية ، مجلة فنون الفرقة الشعبية ، القاهرة المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية ، العدد الأول ، 2002 ، ص 16 .
[20] انظر : مصطفى يوسف منصور : مفاهيم مسرحية ، القاهرة ، مطابع دار التعاون للطبع والنشر ، 2000 ، ص 189 .
[21] السيد حافظ : عنتر بن شداد ، مصدر سبق ذكره ، ص 14 .
[22] السيد حافظ : عنتر بن شداد ، ص 15 .
[23] أبو الحسن سلام : جماليات فنون المسرح بين اللقطة الزمانية ، الإسكندرية ، سام سكرين للطباعة والنشر ، 2001 ـ ص2.
[24] السيد حافظ : عنتر بن شداد ، مصدر سبق ذكره ، ص 16 – 17 .
[25] السيد حافظ : عنتر بن شداد ، ص 22 – 23 .
[26] السيد حافظ : عنتر بن شداد ، المصدر السابق ، ص 32 .
[27] نفسه : ص 16 .
[28] السيد حافظ : عنتر بن شداد ، مصدر سبق ذكره ، ص 33 – 34 .
[29] يلاحظ الباحث أن المؤلف قد استفاد بحكاية حاسب كريم الدين التي وردت في ألف ليلة وليلة بدءا من الليلة 483 في نسج أحداث الرحلة التي قام بها عنترة لإحضار التفاحات الثلاث .
[30] انظر : عيد التواب يوسف : الطفل والأدب الشعبي ، القاهرة ، الدار المصرية اللبنانية ، 1992 . ص 41 .
[31] نفسه : ص 41 .
[32] لمزيد من التفصيل : انظر : عنتر بن شداد ، أبو الفوراس فارس فرسان الجزيرة ، المجلد الأول ، بيروت ،المكتبة الشعبية ، د.ت . ص 14 .
[33] فاطمة حسين المصري : الشخصية المصرية من خلال دراسة بعض مظاهر الفولكلور العربي ، سبق ذكره ، ص 89 .
[34] أحمد عباس صالح : ثأر ابن عنتر ، دراسة تطبيقية في الأدب الشعبي ، القاهرة ، روزا اليوسف ، 1973 .
[35] عبد الحميد يونس : الظاهر بيبرس في القصص الشعبي ، المكتبة الثقافية ، العدد 3 ، القاهرة ، وزارة الثقافة والإرشاد ، د. ت ص 102 .
[36] المرجع السابق نفسه ، ص 102 .
[37] انظر : طارق عبد المنعم عبد الرازق : المؤثرات التراثية في أعمال الجيل الثالث من كتاب المسرح المصري ، مخطوط رسالة ماجستير ن كلية الآداب ن جامعة الإسكندرية ، 2002 ، ص 76 .
[38] عبد الحميد يونس : ( سيرة عنترة – ملحمة شعبية عالمية ) مهرجان القراءة للجميع ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995 ، ص 13.
[39] شكري عياد : البطل في الأدب والأساطير ، القاهرة ، دار المعارف ، 1977 ، ص 29 .
[40] انظر : نبيلة إبراهيم : البطولة في القصص الشعبي ، سلسلة كتابك ، القاهرة ، دار المعارف ، 1977 ، ص 29.
[41] أحمد علي مرسي : الأدب الشعبي وثقافة المجتمع ، مكتبة الأسرة ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1999 ، ص 169 .
[42] كمال الدين حسين : توظيف التراث في المسرح المصري الحديث ، سبق ذكره ، ص 140 .
[43] انظر : فاروق خورشيد : عالم الأدب الشعبي العجيب ، مكتبة الأسرة ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1997 ، ص 184 – 185 .
[44] المرجع السابق ذاته ، ص 87 – 88 .
[45] محمد حافظ دياب ، إبداعية الأداء في السيرة الشعبية ، الجزء الثاني ، مكتبة الدراسات الشعبية ، القاهرة ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، 1996 .
[46] السيد حافظ ، عنترة بن شداد ، مصدر سبق ذكره ، ص 15 .
[47] سيرة عنترة بن شداد أبو الفوراس فارس فرسان الجزيرة ج 1 ، بيروت ، المكتبة الشعبية ، د. ت ، ص 46 .
[48] السيد حافظ : عنترة بن شداد ، سبق ذكره ، ص 34 .
[49] السيد حافظ : أبو زيد الهلالي : القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1994 .
[50] لمزيد من التفاصيل حول السيرة الهلالية انظر : عبد الحميد يونس : الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي ، القاهرة ، الهيئة العامة لقصور الثقافة.
[51] فاروق خورشيد : عالم الأدب الشعبي العجيب ، مرجع سبق ذكره ، ص 80 .
[52] السيد حافظ ، أبو زيد الهلالي ، مصدر سبق ذكره ، ص 60 .
[53] أبو الحسن سلام : الشخصية والتشخيص في ليالي الحصاد ، مجلسة الشاطئ ، الإسكندرية ، مارس ، 1989 .
[54] السيد حافظ : أبو زيد الهلالي ، المصدر السابق ، ص 17 – 18 .
[55] السيد حافظ : أبو زيد الهلالي ، المصدر السابق ، ص 30 – 31 .
[56] السيد حافظ : أبو زيد الهلالي ، المصدر السابق ، ص 37 .
[57] فاروق خورشيد :الموروث الشعبي ، القاهرة ،دار الشروق ، 1992، ص 15 .
[58] انظر : فاروق خورشيد : الموروث الشعبي ، مرجع سبق ذكره ، ص 157 .
[59] نفسه : ص 157 .
[60] فاروق خورشيد : المرجع السابق ، ص 158 .
[61] هادي نعمان الهيتي : ثقافة الأطفال ، الكويت ، عالم المعرفة ، 1988 ، ص 190 .
[62] أبو الحسن سلام : الشخصية والتشخيص في ليالي الحصاد ، مرجع سبق ذكره .
[63] المرجع السابق نفسه .
[64] انظر : فاروق خورشيد : أدب السيرة الشعبية ، القاهرة ، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان ، 1994 ، ص 80 .
[65] إبراهيم حمادة : معجم المصطلحات الدرامية ، القاهرة ، دار المعارف ، 1985 ، ص 77 .
[66] حياة جاسم محمد : الدراما الملحمية في مصر 1960 – 1970 ، الكويت ، عالم الفكر ، المجلد الخامس عشر ، العدد الأول ، وزارة الإعلام ، 1974 ، ص 821 .
[67] أيمن الخشاب : تأثيرات الملحمي على تقنيات الإخراج في عروض المسرح المصري المعاصر ، مخطوط رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة الإسكندرية ، 1999 ، ص 70 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق