الأربعاء، 13 مايو 2009

شهادة الوجع

شهادة الوجــع المســرحى واستراحة المحارب
بقلم : السيد حافظ
اربعون عاماً وأنا عاشق للمسرح
شردنى ...جوعنى ...عذبنى
أبكانى وأضحكنى ..كلما اقتربت من قرار اعتزاله ..جذبنى اليه بشدة لكنه الأن يتركنى على رصيف الإحباط ....آهٍ ما أقسى هذا الفن وما أعذبه.. لو أننى كنت ألعب الكرة وأعشقها هذا العمر لكنت الآن نجماً كروياً لامعاً ولو كنت تاجر لحوم لأصبحت الآن أكثر ربحاً وشهرة وأصبحت لحومى فى ثلاجة كل بيت ..لكننى أخذت تجارة الأفكار وإضاءة العقول بالمسرح وفى المسرح ..وللمسرح ولكننى خسرت .نعم خسرت أيامى الجميلة حتى كل ما كسبته من التليفزيون أنفقته على المسرح !!!
عمرى الأن خمسون عاماً وعندى 44 كتاباً بين قصة ومسرح وكتب عنى أكثر من عشر رسائل جامعية و1730 مقالة ودراسة منشورة عن أعمالى ..كل هذا وما زلت كالطيور تخرج فى الصباح تسِّبح بحمد الله ولا تعرف رزقها ..مازلت لا أملك قوت يومى الضرورى ..لاننى لست موظفاً وأضيق بالوظيفة .. لذلك تفرغت لكتابة المسرح ..ماذا أعطانى هذا الفن الجميل ؟؟ إننى أخترت مهنة الظل - التأليف - وفى البداية كنت أحب التمثيل والإخراج لكننى انجذبت نحو الكتابة ..لأن النصوص التى كانت تقدم لى دائماً كسيحة ...كنت أشعر اننى أستطيع أن أحقق نصاً متميزاً على المستوى العالمى ..لكننى بعد مضى ثلاثين عاماً لا أرى أعمالى إلا فى الوطن العربى من مشرقه إلى مغربه... والعالمية ظلت بعيدة ..ربما بسبب الأسوار التى تحجب بين ثقافة الشرق والغرب نعم ..إنها أسوار الترجمة .
أفكر الآن وبشكل جدى فى ترجمة أعمالى بحثاً عن مخرج من ضيق الفن المسرحى فى الوطن العربى .المسرح العربى يحتضر ببطء ..المسرح الآن يعانى من اللافكر ..اللارؤى..اللاعمق يحصد الممثل كل شئ ..التصفيق ..الإعجاب ..الأجر العالى ..الأضواء ..والمؤلف والمخرج المسرحى فى وطننا العربى يحصلان على أقل أجر فى عملية الإنتاج .لقد تم تهميش الكاتب والسبب التخلف الثقافى والفكرى والاجتماعى والسياسى الذى ينتشر فى الوطن العربى .
عندما قررت أن أبيع ( ميراثى من أبى ) وعمرى 21 عاماً لكى أطبع مسرحيتى " حدث كما حدث ولكن لم يحدث أى حدث " و" الطبول الخرساء فى الأودية الزرقاء " ..اتهمنى الجميع بالجنون ما عدا أمى .
وعندما حصلت على أول ألف دينار كويتى قررت أن أطبع مسرحيتى " حكاية الفلاح عبدالمطيع" اتهمنى الجميع بالجنون ...ماعدا زوجتى .، وعندما حلمت بتكوين فرقة مسرح اطفال فى مصر ..هاجمنى الجميع وأجرت مسرح الأنفوشى بالاسكندرية وخسرت عشرة آلاف دولار !! المسرح أعطيته كل شئ وأعطانى الإحباطات .جاء كومبارسات للعمل فى مسرحياتى وخرجوا منها أبطالاً لمسلسات كبيرة وحصلوا على عشرات الألوف ..اقول لنفسى ماذا حصلت انت غير مقالات مدح هنا وهناك ورسالات علمية فى الأكاديميات المختلفة مسرح السيد حافظ ..طز نعم طز ..فأنت أحياناً لا تجد ثمن كوب الشاى واحياناً لا تجد أجرة التاكسى لكى تذهب إلى إحدى الجامعات او الندوات لسماع محاضرة عن أعمالك وأحياناً لا تملك ثمن بنزين سيارتك أو تذكرة سفر لمشاهدة مسرحية لك فى دولة عربية ...أى عذاب هذا المسرح ..رغم أن صديقى الكاتب المبدع محفوظ عبدالرحمن هرب من المسرح إلى التليفزيون ..وأنا فشلت فى الهروب وكلما حاولت مرة يقبض على حراس المسرح ويقودوننى إلى زنزانة المسرح الدافئة الباردة ..آه ياأيامى المسرحية .أحياناً أصيح لأصدقائى عشاق المسرح الفقراء مثلى عبدالكريم برشيد - عزالدين المدنى- قاسم محمد- فؤاد الشطى - أحمد جمعة - أحمد العشرى - عبدالرحمن الشافعى - أمين بكير - أبوالعلا السلامونى - يسرى الجندى - بهيج اسماعيل ...الخ ...
كنت أرى المسرح التجريبى بعد نكسة 67 هو الحل لخروج المسرح المصرى والعربى من أزمته !!
لكن المسرح التجريبى ظل محدوداً ومحاصراً بالجهل ..فالجمهور يزداد غيبوبة ثقافية والتليفزيونات والقنوات الفضائية تصدر له كل أنواع البلاهة فى 90% من المسلسلات ..أما البرامج التليفزيونية والتى يشرف عليها 95% من الرقباء ينتمون إلى جمعية الرقابة على التنوير والتفكير والتطوير والعمل على نشر الجهالة والتسطيح والتعمية .آه ما أقسى الأيام ..أين جمهور المسرح ؟
جمهور المسرح الحقيقى يختبئ فى ضلوع كل كاتب ومخرج ومبدع وشريف ..جمهور نراه فى الحلم ونراه أثناء الكتابة والاخراج . أما معظم جمهور المسرح الآن الذى نراه فى معظم الأحوال هو قطيع صنعته أيدى القتلة من أصحاب الرقابة على التنوير ونشر الجهل والتعتيم .
انتقلت من مرحلة الكتابة للمسرح التجريبى إلى مسرح الطفل وهنا شعرت بالفرح والأمل والنجاح الذى لم يسبق له مثيل عندما حققت أول مسرحياتى أرباحاً تصل إلى مليون دولار " مسرحية سندريلا ".
لكننى اكتشفت شيئاً غريباً أن المنتج شعر بالعداء لى ..إنه يرى أنه سبب النجاح وجدير به أن يثبت لنفسه ان النص المسرحى لا شئ ( هو ورق ) فيقرر التخلص منك وشراء نص مسرحى آخر فيخسر مائة ألف دولار .
وبدأت أحقق نجاحات فى مسرح الطفل لم تخطر على بالى شريط الفيديو وصل سعره إلى 25 دولارا للشريط .وكل المنتجين يربحون الآلاف وبائعو أشرطة الفيديو ..إلا أنت ..النص أرخص الأشياء يقولون ..أنت أستاذ عظيم ..طز ..أعرف أن أعمالى المسرحية للأطفال تقدم فى مئات المدارس .( ميزانية المسرح المدرسى فى مصر 6 مليون جنيه ) ولا أحد يفكر فى دعوة المؤلف ولا صرف مكافأة ماليه له لأن المؤلف المسرحى فى الوطن العربى بلا حقوق ! وبلا أمان..وبلا قيمة حقيقية !
ثم جاءت رحلة أخرى مرحلة البحث فى التراث العربى وتوظيفه تأكيداً لمبدأ الشيخ محمد عبده " إيقاظ روح الأمة " . وبدأت سلسلة من المسرحيات التراثية التى تبحث للأمة عن مخرج وتشد على يدها وتعمل على إيقاظها !! فهل تستيقظ ياوطنى ..فهل تستيقظ الأمة العربية والإسلامية ..ونحن مازلنا نفكر المسرح حلال أم حرام
ثم بدأت مرحلة أخرى ...مرحلة البحث عن الكوميديا ..المسرحيات الهزلية ..التى تحمل مضموناً وهدفاً ..لعلى أصل إلى الجمهور الذى اختطف منا زمناً ونعود به إلى القيمة ..أمضيت عمرى كله أجرب وأبحث عن مسرح جديد وإنسان جديد ..ولكن لا جديد ..
كلما تذكرت كلمة الكتابة للمسرح فهى تعنى ..الوجع والعذاب ..


السيد حافظ
يونيو 1999

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق