الجمعة، 5 يونيو 2009

مسرح المقاومة عند السيد حافظ بقلم سعد اردش

فى ذكرى نكسة 5 يونيو 1967 كتبت مسرحيتى 6 رجال فى معتقل وقدمتها فرقة المنصورة المسرحية عام 1968 قدمها الفنان ابراهيم عبد الرازق ومحمود حافظ واخرجها ابراهيم الدسوقى والحان الملحن البورسعيدى احمد متولى وكتب عنها دراسة المخرج سعد اردش عام 1980 وقدمتها جامعة القاهرة عام 1998 وكانت مفاجأة لى حيث اخذنى الشاعر والكاتب والمترجم والصديق دكتور يسرى خميس لمقر مسرح جامعة القاهرة بعد 30 عاما لارى المسرحية مرة اخرى وسوف اكتب اليوم مقالاعن( النكسة والوطن وانا )
مُقَدمَة حَول مَسرح السيَّد حَافظ
بقلم سَعـد أردش

السيد حافظ من مواليد الإسكندرية فى 1948، ولكل من تاريخ ميلاده ومكانه دلالة استدل عليها من قراءتى لكل تجاربه المسرحية، وبوجه خاص المسرحيتين موضوع هذا الكتاب - فأما عن التاريخ فإنه محفور بالدم والدموع فى السجل المعاصر للأمة العربية بحروف من ذل وعار: ضياع فلسطين، وقيام إسرائيل، تحقيقاً لوعد بلفور ولأحلام التلمود، على أرضها، وفى بيارتها، وعلى دماء شهدائها، وكانت جيوش العرب فى قلب المعركة..!!
وعندما أتم السيد حافظ عامه التاسع عشر أصابت الأمة العربية هزيمة أخرى مدوية، على يد الجيش الإسرائيلى، كخطوة على طريق الحلم الكبير: من النيل إلى الفرات.. وكانت جيوش العرب فى قلب المعركة..!!
كاتبنا إذن من جيل عاش صباه ويعيش شبابه ملتاعاً يكتوى بسلسلة من الهزائم الوطنية القومية، وكان من الممكن أن يعيش عصر التحرر، والاشتراكية، والعدالة، والعتق من كل ما كان يثقل كواهل الأجيال السابقة، وما حاربت من أجل الخلاص منه أجيال 1919، 1946، وما قامت من أجله ثورة يوليو 1952 وما تلاها من ثورات فى الوطن العربى.
هو جيل لمعت فى عيونه ابتسامة الأمل فى حياة أفضل، ولكن أمله سرعان ما أصيب، لا أقول بخيبة أمل، ولكن باليأس الكامل من كل ما كان من أجداده واخوته الكبار، بل وفى إمكانية إصلاح ما أفسده التاريخ.. !!
وتبدو لنا مسرحيتا الكاتب محاكمة قاسية لمؤسسات مصر المحروسة : فمسرحية "6 رجال فى معتقل 500/ شمال حيفا" تحاكم المؤسسة العسكرية، ومسرحية "مدينة الزعفران" تحاكم المؤسسة المدنية. على أن المحاكمة لا تعكس اليأس كل اليأس، وإنما تحمل خيطاً دقيقاً من الأمل يمكن - لو تحقق - أن يحمل إلى الأبناء والأحفاد بشرى التحرير، والعتق والعدل الاجتماعى. والأمل على أية حال يمكن أن يتحقق إذا عولجت السيئات التى يشير إليها الكاتب فى أحداثه وفى شخصياته المسرحية، وفى كلماته، وهى أخطاء فى النهاية ثابتة وبارزة، كان من الممكن ألا تقع لو تحققت المبادئ الستة لثورة 1952 بصدق وحماس، من جانب الراعى، ومن جانب الرعية.
ولست أريد أن أفسد على القارئ العزيز متعة التشوق إلى قراءة المسرحيتين فأكشف عن التفاصيل الموضوعية فيهما، لهذا سأكتفى بمحاولة إلقاء الضوء على أبعاد التجربة الشابة للصيغة المسرحية الجديدة.
إن الهدف الأساسى عند الكاتب ليس المسرح فى حد ذاته، ليس الصيغة الفنية على أى شكل من الأشكال، ولكنه الكلمة المضمون. إنه يمتلئ بمضمون ما، ثم يصبه فى قالب فنى. ومضامينه ذات صبغة إنسانية عامة، فهى لا تثير جانباً واحداً من جوانب البناء الاجتماعى، إنك تلمس فى العمل الواحد كل ركائز التكوين الاجتماعى : الأخلاق، الدين، العلم، الحضارة، التاريخ، التراث، فى إطار من الفكر السياسى والاقتصادى والعسكرى. والسياسة عنده لا تقتصر على الأبعاد الداخلية - كعلاقة الفرد بالمجموع، أو كعلاقة الحاكم بالشعب - ولكنها تتجاوز ذلك إلى العلاقات الخارجية، سواء كانت هذه العلاقة علاقة خنوع وخضوع للغير أو علاقة الند للند، أو فى النهاية طموحاً إلى الندية من العالم الخارجى.
وهناك علاقة عضوية ثابتة بين السياستين، فبقدر وعينا نحن الشعب بالحقائق، وبقدر تطلعنا إلى الحرية والديمقراطية والعدالة، وبقدر تمسكنا بها وتضحياتنا من أجلها فى الداخل، بقدر ما نتيح لأنفسنا ولوطننا ولأمتنا العزة والمتعة والكرامة والحرية، والعكس صحيح.
فى "مدينة الزعفران" يبسط لنا صورة واضحة عن العلاقة بين الحاكم والشعب : الحاكم بتسلطه وبكل ما يحيط به نفسه من أدوات القسر والإرهاب، توصلا إلى ابتلاع أرزاق الشعب ومصالحه فى بطنه هو وأعداء الشعب المحيطين به، والى التشبث بالسلطة ضد كل القوانين والتشريعات والأعراف، ورغم كل النكسات والهزائم ومظاهر التخلف والفساد والخراب، والشعب الذى قد يكون واعياً، وفاهماً، وقد لا تنقصه الإرادة، إرادة التغيير إلى ما هو أفضل، ولكنه شعب أعزل مسكين، لا يملك من أمر نفسه شيئاً، لذلك فإن الشعب يلتف دائماً حول زعيم هو فى "مدينة الزعفران" خادم العامة، غير أن الزعيم غالباً ما يخون ثقة الجماهير به، أراد ذلك أم لم يرده، فالعبرة هنا ليست بالنيات، وإنما بالأفعال والمواجهات.
ولقد عالج الأدب طويلاً قضية العلاقة بين الحاكم والشعب، وهو يعكس فى النهاية تطوراً متقدماً لمنطق هذه العلاقة عبر سلسلة من الثورات السياسية تسلم فى النهاية إلى أشكال متباينة من الدساتير التى تصنع كثيراً من الضمانات للإبقاء على خيط العدل والتوازن فى هذه العلاقة: ابتداء من الديمقراطية اليونانية، وحتى التنظيمين اللذين يسودان العالم فى زماننا : الرأسمالية والشيوعية، وبين القديم والحديث، المبادئ التى تمليها الشرائع السماوية.
ولكن الكاتب يريد لنفسه أن يلتزم جانب التصوير للواقع، دون أن يتخطى ذلك إلى البحث عن الحلول. إنه يكتفى بالإشارة إلى فشل هذا النوع من العلاقة الدستورية التى سادت وتسود التجربة المصرية منذ أن انطلقت جماهير الشعب المصرى تزأر فى وجه المستعمر الإنجليزى فى 1919 تحت راية زعيمنا سعد زغلول، وحتى أسلمت قيادتها إلى زعيمها جمال عبد الناصر تحت راية ثورة يوليو 1952، ولكنه لا يشغل نفسه بالبحث عن البدائل أو باقتراح الحلول. ولقد يشير الزعيم عنده -مقبول عبد الشافى - إلى بعض إيجابيات أو سلبيات التجربة أحياناً :
- يا حبيبى يا رسول الله. ما معنى الإنسان إذا صار عبداً وصارت الأمة نعاجاً.. !!
- الحق مات فى الإنسان، فمن ينقذ الإنسان من الضلال غير الحرية.. ؟!
- طوبى للأطفال الذين لا يرون رجال الشرطة وهم يضربون المتظاهرين.. !!
- كل مواطن خائن حتى تثبت براءته.
- خدعتنا التصريحات. الكلمات البراقة الخداعة. خدعنا التجار فى الأسواق.. كل شىء يخدعنا ونحن لا ندرى..!!
- صفقنا لكل خطاب رائع، لكن لا جدوى من ا لخطب، صفقنا للمقاتلين المخدوعين فى الحرب، وقلنا مرحى بالأبطال، علقنا كلمات النصر ونحن نساوم العدو.. !
ولكنه يعمل بالقاعدة التقليدية فيترك للجمهور أن يكتشف الحلول وأن يسعى إليها. إنه بالرغم من نزعته التجريبية لا يذهب مذهب أصحاب المسرح السياسى الذين اتخذوا من المسرح وسيلة للتعليم والتنوير والاستفزاز والتحريض على الثورة ضد ما هو معوج وظالم، توصلا إلى عالم أكثر عدلاً وأقرب إلى المجتمع الفاضل.
وفى "6 رجال فى معتقل" يضع مجموعة من المؤسسة العسكرية المصرية فى السجن الإسرائيلى - فى الأرض المغصوبة، وتحت رحمة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية - على أثر هزيمة الأيام الستة فى 1967. والعسكريون الستة الأسرى ينتمون إلى طبقتين فى سلم العسكرية: ثلاثة من الضباط وثلاثة من الجنود. ولكنهم ينتمون اجتماعياً إلى أكثر من طبقة، فالجنود من الكادحين، عمالاً كانوا أو فلاحين، أما الضباط فقد يكون بينهم واحد من الطبقة نفسها (حسين) إلا أنه قد أنكر طبقته وتنكر لها بمجرد حمله رتبة الملازم الثانى، ولكن منهم واحداً (رأفت) هو سليل الأرستقراطية المصرية:
- العجمى.. أحلام مينا هاوس.. بابا، أنا رجعت، أنا عايز أروح الفيلا بتاعت المعمورة، عايز أرقص وأغنى واستحمى فى البحر واتمدد تحت الشمسية.
ولعله لهذا السبب بالذات قد وجد مكاناً مناسباً عند المحققين الإسرائيليين ووجدوا فيه الشخص المناسب أيضاً:
- حضرته ملازم أول بيطلع كل يوم ياكل فرخة فى أوضة التحقيقات، واحنا هنا بناكل عند وتحدى.
أما الضابط الثالث (ضياء) فهو : أحسن دفعته فى الطيران..
- فايتر Fighter .. مقاتل.. التقارير اللى مكتوبة عنه بتقول إنه أحسن دفعته أخلاقاً. ولكنه الوحيد من المجموعة الذى فقد توازنه، وبدأ يعيش حالة تصوف وينطق بالحكمة - حتى وهو تحت سياط التعذيب - ولكنها ليست حكمة المجانين أو المهابيل، إنما حكمة محارب الذى أصيب بشىء أكثر كثيراً من خيبة الأمل فيما كان من هزيمة ماحقة، ولكنه مع ذلك يرفض الهزيمة، وينتظر يوم النصر، وعندما يسأله المحقق الإسرائيلى: يوم 5 يونيو كنت فين؟! يجيب:
- كان باتريس لولومبا مدبوح، ثورته مجروحة جوه غابات الكنغو، بتغنى للعالم، بتنزف ألف صرخة، ألف أه، ألف واد، ألف ثورة، كانت الفتنة تعابين تتلوى فى بحر موجه لون الندى. يا حبيبتى صدقينى الفتنة دبحت كل السود، السود لحن ثائر، حروفه تايهه فى الغابات.. لو تتلم الحروف راح ينفجر اللحن.
- وأيضاً صلاح الدين حزين، دمعته قصيدة تواسى المهزومين، صرخة تنادى المستحيل لأجل يهون.. كان سعد زغلول منفى والثورة قايده فى البلد براكين، فيضانات..
والمسرحية تعرض علينا تفاصيل العلاقات بين هؤلاء الستة فى ظروف الأسر وما يلاقون فيه من تعذيب حيناً، ومراودة وملاطفة حينا أخر بقصد استيعابهم من جانب العدو. ولكن الجديد فى الأمر إنها تعرض علينا أيضاً تفاصيل العلاقات بين مجموعة الإسرائيليين العسكريين - ومن بينهم راشيل (أو سارة) التى تقوم بنوبات عمل تتراوح بين الخدمة والترفيه (!!)، ثم يعرض علينا بطبيعة الحال العلاقات بين مجموعة المنتصرين ومجموعة المهزومين، بينما تصل إلينا بين آن وآخر أخبار الفدائيين الفلسطينيين فى عملياتهم داخل الأراضى المحتلة، أو أصوات رصاصاتهم وهى تحمل معها صوت الإصرار على مواصلة المعركة، ولعلنا قراء أو مشاهدين - ندرك من خلال هذه العلاقات تقويماً إجمالياً لظروف هزيمة 1967 وأسبابها ومبرراتها، ليس فقط داخل المؤسسة العسكرية للعدو الإسرائيلى، أقول تقويماً إجمالياً، لأنه فى النهاية تعبير فنان يستوحى القوى الإبداعية، وهى بالضرورة قوى الشعر، بعكس التقويم العلمى الذى يبدأ بالفعل ويضع يدنا على كثير من الحقائق المذهلة التى كانت تخفيها المظاهر الكاذبة، والدعايات المخادعة.
على أنه إذا كانت المسرحية تقدم لنا هذا التصوير من خلال مجموعة من الشخصيات العسكرية التى تظهر أمامنا على خشبة المسرح، فإننا نرى من خلال المرأة الغربية من كل منهم فى أزمته مثل أم العسكرى محمد، التى يحاول أن يكتب لها خطاباً يحمل إلى نفسها الصبر، ولكنه فى النهاية يضع فى الظرف ورقة بيضاء - أولاً لأنه أمى ولا يعرف القراءة والكتابة، وثانياً لأن أمه تراه بعين الأمومة المحبة، وتعرف تماماً ما يريد أن يقول لها. والأم بوجه خاص - حاضرة كانت أم غائبة- تكتسب عند السيد حافظ بعداً رمزياً يشير فى نفحة شعرية إلى مصر، بكل ما فى مصر من أوجاع وآلام وصبر وإصرار.
التجريبية فى مسرح السيد حافظ :
السيد حافظ ينتمى إلى جيل يبنى رفضه للقديم على أسس واقعية، من أهمها أن ذلك الجيل لم يف بالتزاماته - إما لأنها لم تكن واضحة له كل الوضوح، وإما لأنه سارع بالتنازل ظناً منه أن المعركة قد حستمها الثورة، وإما - أخيراً - لأنه كان كاذباً فى التزامه فكان يغطى به تطلعاته البرجوازية، ضارباً عرض الحائط بمصالح طبقة الكادحين وبمصالح مصر. إن هذا الجيل يحمّل سلفه مسئولية الهزيمة الماحقة، والفشل الذريع الذى أصاب ثورة 1952، وسلسلة الحركة الشبابية التى سادت مصر فى 1946، وهو لهذا يرفضه ويرفض أساليبه، ويبحث عن أساليب جديدة من خلال التجريب. والتجريب على أية حال هو السمة الغالبة فى المسرح الحديث، ونحب هنا أن نرصد بعض سمات التجريبية عند الكاتب، من خلال المسرحيتين موضوع هذا الكتاب، ولذلك نشير أولاً إلى أن التجديد فى المسرح لا يرقى دائماً إلى مستوى الابتكار والإبداع على أساس هدم القيم الكلاسيكية بعضها أو كلها: إن المسرح الجديد يبقى دائماً مسرحاً تتوفر فيه الركائز الأساسية لفن المسرح كما وصل إلينا فى صورتيه: الرسمية (الأكاديمية) والشعبية، منذ ما قبل التاريخ، فهو دائماً حوار بين الفنانين والجماهير من خلال أحداث وشخصيات فنية تدور كلها داخل بناء اتفق على تسميته "الدراما" لتمييزه عن الأبنية المختلفة لغيره من النوعيات الأدبية والفنية.
ومن هنا نستطيع أن نتفق على أن التجديد ليس مطلقاً أبداً، ولا يمكن أن يكون مطلقاً، وإلا خرج من إطار المسرح إلى نوع آخر من الإبداع. إن المجددين فى المسرح يحتفظون بجانب من التقاليد، على الرغم منهم، ويضيقون أو يحذقون أو يعدلون فى الجوانب الأخرى.
على ضوء هذه الفكرة نستطيع أن نقول إن التجديدات التى ادخلها جيل الستينات على المسرح المصرى قاصرة على استبدال المضامين، وذلك بتناول القضايا الآنية للإنسان المصرى، بعد أن زالت العوائق أمام معالجة هذه القضايا، ولكن هل نستطيع أن نعتبر نعمان عاشور ومحمود دياب ويوسف إدريس منقطعى الصلة بالمسرح القديم؟!
لا بالتأكيد، بل على العكس من هذا تماماً، فمن المؤكد أن الثورة التى أحدثها هؤلاء بالمسرحية المصرية قد لحقت بالمسرح العالمى قبل ذلك بقرن من الزمان (مكسيم جوركى وانطون تشيكوف فى روسيا وهنريك ابسن فى النرويج وبرناردشو فى ايرلندا.. الخ)
ولقد جدد جيل الستينات كثيراً من الشكل أيضاً، بل وحاولوا تغيير نوعيات العلاقة فى الإنتاج المسرحى، وفى طبيعة ا لاتصال بين العرض والجمهور، وجاءت التجديدات فى الشكل أيضاً متأخرة عما جرى فى المسرح العالمى قرناً أو أكثر من الزمان.
تجريبية الكاتب إذن لا تتناول الأسس الثابتة للمسرح من حيث هو ذلك، وإنما تقدم شيئاً يختلف قليلاً أو كثيراً عن المسرح الذى قدمه جيل الستينات، وفى الحدود التى لحقت أيضاً بالنوعيات الأدبية الأخرى كالقصة والرواية والشعر.
البنية الدراميــة :
يتردد الكاتب بين التقسيم التقليدى إلى فصول كما فى "مدينة الزعفران" واللحظات المتتابعة فى شكل فواصل أو (جسور) كما فى "6 رجال فى معتقل"، ولكنه لا يحفل كثيراً بالتطوير الدرامى أو بالتقسيم التقليدى إلى مقدمة وعقدة وحل. إنه فى كل الحالات يريد أن يعبر عن موقف من المواقف الاجتماعية الحادة التى تتصل بالبنية الاجتماعية (السياسة الاقتصادية) أو بمسيرة المجتمع مع ذاته ومع غيره من المجتمعات المعادية أو الصديقة. وهو لا يحفل كثيراً بالقصة كأساس للعمل الدرامى، وإنما يضع البذرة الأولى لموقف درامى يقوم على التناقض الظاهر أو المستتر، ثم يطور هذا الموقف صعوداً حتى يوصلنا من خلال "أدواته الإنسانية" وما تمر به من مواقف وصراعات- إلى ما يريد أن يبسطه من وجهة نظر نقدية، بغية تنبيهنا إلى ما يجب أن ننزع إليه من إصلاح أنفسنا.
والكاتب يبسط أفكاره عن طريق "أدوات إنسانية" كما قلت فهو لا يحفل كثيراً ببناء الشخصيات الفنية، قد تكون بين هذه الأدوات شخصية ما - كما نلمس فى "مقبول عبد الشافى" محور "مدينة الزعفران" - ولكن البشر على خشبة المسرح بعد ذلك أنماط أو أرقام أو - على الأكثر - أنواع من "السلوك الإنسانى"، وهى تذكرنا من ناحية بمسرح الأنماط الأخلاقية فى القرون الوسطى، ومن ناحية أخرى بمسرح العبث الذى تتحول فيه الكائنات إلى أرقام أو مدلولات أو رموز، وسواء منح الكاتب هذه الأنماط والسلوكيات أسماء أشخاص أو لم يمنحها أسماء فإنها تظل مجرد دلالات على لون معين من السلوك فى مواجهة الموقف الاجتماعى المطروح.
لنقارن مثلاً بين مجموعة العسكريين عن الكاتب فى "6 رجال فى معتقل"، ومجموعة العسكريين عند على سالم فى "أغنية على الممر" : إن على سالم يقيم مسرحيته على مجموعة من الشخصيات الفنية واضحة المعالم والمعطيات والأخلاقية والاجتماعية، وكل من هذه الشخصيات تنبئ بوضوح تام عن بيئتها وعن طبقتها الاجتماعية وعن آلامها وآمالها، وعن مدى ارتباطها بفكرة الوطن والقومية، والدراما عنده نابعة من الموقف الذى تعرضت له، ومن طريقة مواجهتها لهذا الموقف.
أما السيد حافظ فإن مجموعة العسكريين قد اختيرت بشكل هندسى لتعبر عن أفكاره هو : إنه رصد المجتمع أولاً، وصنفه إلى مجموعة من السلوكيات المتباينة أملاها إملاءً على الأشخاص - الأنماط - التى اختارها.
ولست أريد بعقد هذه المقارنة أن أفاضل بين مسرحين أو بين اتجاهين، فالطريقان مشروعان ومتبعان فى المسرح على مدى التاريخ كما أسبقنا. والمهم فى النهاية أن يحقق الكاتب غاية من خلال الوسيلة التى اختارها، ونحن نرى فى مسرح بيراندللو مثلاً طرائق جديدة فى هذا المضمار، تصل إلى حد أن يستدعى الشخصيات الفنية فى "6 شخصيات تبحث عن مؤلف" لتعرض مأساتها بنفسها على المسرح، حيث يقع تناقض دموى بينها وبين مجموعة الممثلين، وبيراندللو فى مثل هذه الحالة يضع أمامنا على المسرح مجموعة من الأشخاص (الممثلين) ومجموعة من الشخصيات، ليؤكد لنا أنه لا قدسية للقواعد فى الفن، شريطة أن نملأ الثغرة بإبداع جديد، وألا يترتب على هجرنا للقاعدة فراغ فى البنية الشاعرية للمسرح، وأن يضع الكاتب فى اعتباره دائماً أن ما يكتب يجب أن يتوفر فيه الحد الأدنى من امكانيات الوضوح والشفافية، ليس فقط للجماهير التى ستؤم العرض المسرحى، بل - ومن باب أولى - لمجموعة الفنانين المسرحيين التى ستتبنى العرض. ويجب أن يكون فى مقدمة هذه الإمكانيات بطبيعة الحال رؤية واضحة للكاتب حول القضايا التى يطرحها فى مسرحه، وبوجه خاص إذا كانت هذه القضايا ذات طبيعة واقعية نابعة من الحركة الدائبة للمجتمع، وهذا حال هاتين المسرحيتين.
البنية اللغوية :
ينتمى مسرح السيد حافظ إلى "مسرح الكلمة"، وهو يقوم بشكل أساسى على الحوار المنطوق، بالتناقض مع نوعية جديدة من المسرح بدأت تغزو خشبات المسارح منذ قديم الزمان فى المسرح الأسيوى، ومنذ أوائل القرن فى المسرح الفرنسى (انتونان أرتو) وفى المسرح الروسى (فزيفولد مايرهولد الذى وضع الإبجديات الأولى فى تقنيات البيوميكانيك)، وأخيراً فى الموجات الحديثة التى تظهر بوضوح فى "المسرح الفقير" عند جروتوفسكى فى بولندا.
وإذا كانت القيادة فى مسرح الحركة للمخرج والممثلين، فإنها فى مسرح الكلمة للكاتب، ومن هنا فمن الأهمية بمكان كبير أن ندرس لغة الكاتب، وأن نبحث فى طبيعتها ومنشئها وبيئتها: هل هى لغة الشعر أم لغة النثر، وهل هى متوائمة مع البيئة الدرامية ومع الموقف الدرامى ومع الشريحة أو الشرائح الاجتماعية التى تنطق بها، حتى نتوصل إلى استنباط منهج الأداء.
لغة السيد حافظ تترد بين مستوى العامية ومستوى العربية (أو الثالثة جريا على تسمية توفيق الحكيم) ولكنها تنحو منحى الشعر، فهى ليست اللغة الوظيفية التى توجه توجيهاً إلى مجرد الوفاء بالمعنى أو بالهدف المقصود من نطقها كما يقع فى الحياة الواقعية، بل تتجاوز ذلك إلى نسج مناخ يعبر عن المأساة أو المآسى- التى يشجبها الكاتب: مأساة انعدام الحرية والديمقراطية فى ممارسة لعبة الحكم فى كل الأنظمة المصرية فى المسرحية الأولى، ومأساة تفسخ القوات المسلحة كسبب أساسى للهزائم المتكررة فى المسرحية الثانية.
والحقيقة أن اللغة عند الكاتب تقوم مقام كثير من ركائز المسرح التقليدى كالبناء الدرامى الممنطق، وكالشخصيات الفنية.. الخ. فكأنما المسرحية قصيد درامى يذكرنا على سبيل المثال بقصيدة "يس وبهية" عند نجيب سرور، وعلى المخرج ومجموعة الممثلين أن يتبينوا معالم الشعر فيه وأن ينسجوا من هذه المعالم قيماً درامية تتكامل حتى يجتازها مجتمعنا، لعلنا أن نهتدى إلى التزاماتنا قبل تفريج هذه المأساة.
والشعر عند الكاتب لا يعترف بعلم العروض وبكل ما يقوم عليه الشعر، قديمه وحديثه، من موازين وقواف.
وغير ذلك مما يميز نسيج الشعر، ولكنه نوع من الشعر يقوم بالدرجة الأولى على تصور ما يمكن أن ينطق به الإنسان فى حالات اللإوعى أو اللاوزن، مثلما يقع فى الكوابيس أو فى لحظات المفاجأة بكبريات المصائب، أقرأ معى مثلاً افتتاحية "مدينة الزعفران" على لسان الكورس :
يا شمس يا أزهار.. يا سجن يا سجان.. يا زيد يا عمرو.. يا طير يا أشجار.. يا خبز يا خباز.. يا فاطمة يا بهية.. يا ليل يا دخان.. يا حطب يا حطاب.. يا سهل يا تلال.. يا أهل الكفور والنجوع والأزقة والحارات.. بعد موت السندباد لم تنته الحكايات.
وبطل كل حكاية كان السندباد أو عنتر أو الزناتى خليفة لكن فارس الليلة.. بطل الليلة.. لم يكن أبوه السندباد ثم يقول مقبول عبد الشافى فى الفصل الأول:
- تعلمت أن الشرف كل الشرف فى حالة تغيب.. وسألت نفسى سؤالاً واحداً: هل توقف الشعب عن الإنجاب؟! ووجدت الجواب: لا، ففى كل لحظة يولد طفل، وربما هناك فى أحد الأكواخ طفل قادم.. ليس بنبى، ليس بعنترى، ليس بخارق للعادة. بسيط مثل الهواء، والسنابل، والحرية. يحمل الوطن من عصر اللا إنسان إلى عصر الإنسان.
وفى "6 رجال فى معتقل" تتجلى الطبيعة الشاعرية للغة الكاتب تهويمات ضابط الطيران "ضياء":
- المسيح راجع فوق الدروب فى القدس، غريب، طفل غريب، قلبه ينزف صديد. المسيح ضحكته طفل رضيع مقتول بالسكوت. السكوت يا حبيبى. والقرآن والانجيل ريح ممكن تزيل الزوبعة.. القرآن صبح غريب.. يا حبيبتى ابدرى.. ابدرى جوه النفوس حروف النور.. ابدرى الحقيقة لأجل ما تصلح أرض الكدب البور.. يا حبيبتى دوّقى عيالك الطين.. شربيهم ميه النيل.. رجع المسيح.. رجع غريب.
والبناء الشعرى لا يقوم على موسيقى اللفظ بقدر ما يقوم على الصورة الفكرية التى تنبعث من البناء اللغوى، الشعر هنا شعر المضمون لا شعر اللفظ، وهو نوع من اللغة يبعث فى النفس ذلك الحنين، وتلك الوحشة إلى المثل العليا فى الوطنية، وفى الأخلاق، وفى الدين، وفى التنظيم الاجتماعى التى تبعثها الصور التراثية الشعبية من ملاحم وحواديت ومواويل وأشعار.
وإنى لأتساءل أمام هذا البناء الشاعرى للغة الكاتب: إذا لو ملك الكاتب ناصية الصنعة الشعرية وعلومها فصاغ حواره شعراً حقيقياً بكل ما فى الشعر من موسيقى، وإيقاع وأوزان؟!
البنية الفكرية :
تطرح مسرحية "مدينة الزعفران" قضية العلاقة بين الراعى والرعية، أو بين الحاكم والمحكومين وما يتصل بذلك من نظريات حول إمكانيات الاختيار، وفلسفة التمثيل (تمثيل الفرد للمجموع) ابتداء من مبادئ الشريعة السماوية، وانتهاء بما حققته الشعوب من مكتسبات ديمقراطية من خلال ثوراتها عبر القرون. ويذهب الكاتب من ناحية إلى أن السلطة تفسد الفرد (راجع الملك هو الملك لسعد الله ونوس، و جحا باع حماره لنبيل بدران، والأًصل الذى يمكن أن ترد إليه كل هذه العلاجات الحديثة: "الحياة حلم لكالدرون دى لاباركا، ويذهب من ناحية أخرى إلى أن الميزان الحقيقى فى ضبط الأمور هو الشعب، الرعية، الناس:
- مقبـــول : من يستطيع عزل خادم العامة؟؟
- الكورس : السلطان، أو الوالى، أو الوزير.
- مقبول : لا.. انتم.. انتم عينتموه.. وانتم تستطيعون عزله.
ولكنه لا يقول لهم كيف؟ ومن خلال أى تنظيم؟! من خلال نظام الشورى النابع من الشريعة الإسلامية؟! أو من خلال ديمقراطية المجتمع الرأسمالى القائم على مشروعية وضرورة نظام الطبقات المستقرة فى مكانها مع تجريم أى اتجاه إلى إذكاء الصراع الطبيعى بينها، ولو من خلال غريزة التطلع إلى مستوى أفضل؟! أم من خلال التنظيم اليسارى القائم على إذكاء الصراع بين الطبقات وحسمه لمصلحة البروليتاريا بوجه خاص أو الكادحين المنتجين بوجه عام؟! إن مقبول عبد الشافى - ومن ورائه الكاتب- يتركنا نتخبط فى مأساتنا، ولا ينير لنا طريق التنظيم ولا يوجهنا إلى سلبيات تنظيمنا الاجتماعى، ولا يضرب لنا الأمثال من تنظيمات أفضل، وكأنه يريد لنا فى النهاية أن نواصل لعبة الكفاح دون عقل، ودون تخبط، ودون تنظيم، كما نفعل منذ أن حكم الفراعنة مصر حتى الآن. ولكننا نتنبه عند سقوط مقبول عبد الشافى من كرسى خادم العامة، رغم أنه صعد إليه بناء على اختيار الجماهير، إن الاختيار فى ذاته غير كاف،وإنه إذا لم تراقب الجماهير سلوك السلطة وأصحابها فالنتيجة دائماً هى ما حدث لمقبول، وما سيحدث لغيره، ذلك أن أصحاب السلطة العليا، ومن ورائهم الأجهزة - محلية كانت أم أجنبية- يمسكون بأيديهم الخيوط كل الخيوط ويلعبون اللعبة بمهارة تعززها خبرة طويلة وعريقة ورثوها من الفراعنة والأباطرة والقياصرة. إنهم يتحكمون فى الأسواق، وفى البطون، وفى العواطف، وفى الأرزاق، بل ويتحكمون أيضاً فى اتجاهات الجماهير - بما يملكون من وسائل الإعلام والردع والقسر والتخويف والإرهاب من ناحية، والمغازلة والترغيب وتحقيق الأحلام والتطلعات من ناحية أخرى.
وعلى ذلك فإن الكاتب يهدم بسقوط مقبول فكرته المثالية بأن الشعب صاحب الأمر والنهى، وبأنه يقول للحاكم كن فيكون، أو أنزل فينزل، كما كان سلطان الاستانة يفعل بولاة الولايات تحت ظل الإمبراطورية العثمانية. ما الحل إذاً، وقد انهزمت أكبر تجارب الزعامة الشعبية فى حياة مصر، وكانت نتائج هزيمتها ما يعلم الكاتب والقارئ مما يجرى؟!…
يبقى السؤال مطروحاً، ويبقى لتجربة الشعب وحدها أن تجيب عليه، بكل ما تتضمنه كلمة "الشعب" من معميات: من هو؟! هل هو المنتجون أم المستهلكون؟! المتعلمون والمثقفون أم الأميون؟! التجار والأغنياء والملاك أم الفقراء والمعوزون والكادحون من أجل رغيف أسود.. مجرد رغيف أسود.. وبالكاد بصلة؟! أم هو فى النهاية مجموع تحالف فئات الشعب بكل ما بينها من تناقضات كما أرادت له ثورة 1952 أن يكون؟!
على أننا إذا دققنا النظر فى المسرحية الثانية "6 رجال فى معتقل"، حول الانتماء الفكرى الحقيقى له ولكائناته التى تعبر عن فئات الشعب، فإننا سنراه شيئاً لا يختلف كثيراً عن منطق المصالحة الذى فرضته الثورة، والذى انتهى بالفشل والهزيمة: الوسط الليبرالى فى إطار مثاليات الدين، يقول العسكرى الفلاح "محمد" مناجياً أمه:
- كان نفسى يا امه أجولك خللى بالك من اخواتى الصغيرين.. وديهم المدرسة، وودى الكبار كمان.. أظنك ما شفتيش انتصار، هى ساكنه فوق الجزيرة الحمرا.. ودايماً بتغلطى وتروحى الجزيرة البيضا.. إوعى حسك تروحى لانتصار تمش شمال ولا يمين، امشى فى النص علشان توصلى صح، أصل فى اليمين عربيات كثيرة بتقتل.. (ولم يقل لنا ما هى أخطار اليسار، وللسكوت معنى).. !!
ثم يقول العسكرى عبد القوى للضابط الإسرائيلى المحقق:
- أنا ما كسبتش حاجة غير إنى عرفت فين عيوبى.. أنا لا بامشى شمال ولا بامشى يمين ولا حتى مع المذبذبين اللى بتقولى عليهم.. وقبل ذلك، فى أول تحقيق مع الضابط حسين يسأله الضابط.
- إنت يمين؟!
- لأ.
- إنت شمال؟!
- لأ.
والحقيقة أن تقرير هؤلاء الأشخاص- وهم من فئات وطبقات مختلفة بأنهم ينتمون إلى الوسط أو على الأقل ينتمون إذا اتيح لهم، إلى الوسط، قد يحمل لنا إحدى دلالتين: إما أن الكاتب يدعوى إلى اختيار هذا المنهج الفكرى- وهو الأقرب بطبيعة الحال إلى دستور الشريعة الإسلامية- وأمّا إنه يعارض هذا المنهج ويدعو إلى منهج أكثر حسماً. ولكن الأرجح من خلال الحوار إنه يحبذ هذا المنهج ولا يرفضه، وإلا لبادر إلى معارضته على لسان شخص آخر من شخوصه.
والكاتب فى نهاية هذه المسرحية يجد الخلاص على أيدى الفدائيين الفلسطينيين داخل الأرض المحلة، بل إنه يستدعيهم لإنهاء العرض المسرحى بالبندقية والكلاشنكوف، وهو أول من يعلم أن هذا الحلم يشكل معجزة غير قابلة للتحقيق، لأن المعركة العسكرية ليست حلماً من الأحلام، خاصة والأرض العربية تغلق فى وجوه هؤلاء الفدائيين شبراً شبراً، ابتداء من سبتمبر الحزين فى الأردن 1970، وصعوداً إلى سيناء بعد ذلك، ثم إلى جنوب لبنان وسعد حداد، وأخيراً بمعاهدات كامب ديفيد ومفاوضات الحكم الذاتى التى يترقب أخبارها العرب.. كل العرب. ويعلم أيضاً أن القيادة الفلسطينية قد انتهجت مؤخراً منهج الصراع الدبلوماسى، محل الصراع العسكرى.
ويبقى أن أهنئ الكاتب على إصراره، وعلى غزارة انتاجه فى وقت جفت فيه الأقلام، وتطلعت العيون زائغة تترقب المجهول، فى عالم يموج بالفوضى والاضطراب، وتتهدم فيه كل المثل، والعقائديات، والإيديولوجيات، ويسيطر الرعب من حرب ثالثة ماحقة لا تبقى ولا تذر.. أو لعلها هى الخلاص؟!
الكويت فى 17/4/1980 سعد أردش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق