الجمعة، 5 يونيو 2009

نكسة 1967والقضية الفلسطينية فى مسرح السيد حافظ [جزء اول

دراسات فى المسرح السياسى
نكسة 1967والقضية الفلسطينية فى مسرح السيد حافظ
نموذج مسرحية 6 رجال فى معتقل 500/ب شمال حيفا
شنايف الحبيب



اســــم الجــامعـة : محمد الأول – وجده – المغرباســــم الكــليــة : الآداب والعلوم الإنسانيةاســــم الطــالـــب : شنايف الحبيبالأستاذ المشرف : د. مصطفى رمضانىرقم التسجيـــــل : 5564الرقم الوطنــــــى : 197310/86السنة الجامعية : 1989 - 1990 الإهــــداءإلى رائد العروبة فى المشرق العربى أول الأبطال ورائد الثوار صانع ثورة 23 يوليو الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.إلى البدوى الذى خرج من رحم الصحراء العربية مثقلاً بالهموم والغبار ممتطياً صهوة جواده الأخضر، يتحدى الزوابع والأعاصير.. يشق صدر الصحراء فيخرج منها الماء العذب سلسبيلاً يروى صفرة الرمال والأحزان إلى... جنات حسان صاحب النهر العظيم.إلى الجند البواسل طيور الأبابيل الذين أعادوا الأمل فى الانتفاضة الذين قال فيهم عز وجل "فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة .." وقال فيهم "ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون.. " إلى تلك الصقور الغاضبة التى تقابل عصابات الهمج البربر قطعان الشر.. النازيون الجدد.. الصهاينة الأندال.إلى أبى وأمى وإخواتى وأخوانى وأصدقائى وصديقاتى والى الحبيبة الوحيدة (ف) أهدى هذا العمل المتواضع.
بسم الله الرحمن الرحيمالمسرح فى زمانى ومكانى يرصد الفكرة الإنسانية من خلال الكلمة والحوار المسرحى والحدث والشخصيات وما إلى ذلك.. ولما كان المسرح يعكس كل التناقضات الفكرية والسياسية والاجتماعية التى تعرفها المجتمعات على اختلاف شرائحها. كان لابد وأن يخضع لجدلية التأثير وبين الفكر والمجتمع. بمعنى آخر فإن تطور المسرح يعزى لتطور المجتمعات لأنه كلما ازدادت الحياة تعقيداً إلا وازدادت الحاجة إلى شكل مسرحى يستجيب للوضع الجديد.والمجتمع المصرى كغيره من المجتمعات عرف مجموعة من النكسات أثرت سلباً على واقعه ولعل أهمها هزيمة حزيران 1967، التى امتد تأثيرها إلى الحياة المسرحية حتى أصابها نوع من الركود والتردى. إلا أن الله اختار لهذا المجتمع مجموعة من أبنائه المخلصين ذوى الضمائر الحية والغيرة الوطنية الذين حملوا على عاتقهم مسئولية النهوض بالحركة المسرحية بعد النكسة. ويأتى على رأس هذه القائمة السيد حافظ الذى وقف كالطود الشامخ رافضاً الهزيمة ومصراً على تجاوزها. إذ عمل على تطليق الأشكال المسرحية البالية التقليدية واستبدالها بأخرى جديدة. فأنتج لنا لأول مرة المسرح التجريبى فى مصر بالمعنى الأعلى لكلمة التجريب على حد قول نجيب قرشالى : السيد حافظ هو إحدى العلامات المميزة فى المسرح العربى اعتبره النقاد المسرحيون رائداً للمسرح التجريبى، فهو أول من قدم المسرح التجريبى فى مصر من خلال مسرحيته المعروضة كبرياء التفاهة فى بلاد اللا معنى.. فقد أصر السيد حافظ على هذا النوع من المسرح محملاً إياه رؤية جديدة بالوقوف مع الإنسان المقهور المهزوم الذى فرضت عليه كافة أنواع القهر والظلم الاجتماعية والسياسية، وهو ما يفسر لماذا سخط السيد حافظ، وهذا السخط عنده شمل الكتابة وكل المواصفات الحضارية والاجتماعية والسياسية، لذا نجده يدعو إلى التمرد والثورة لدرجة جعلت البعض يعتبر مسرح السيد حافظ ينتمى للمسرح الثورى. والحقيقة أنه أحب تراب الوطن وانحاز للفقراء والمحرومين والحزانى، فرفض الحجر على الفكر ومنع الجرائد، إنه الطائر الصادق باسم الحرية والديمقراطية والوحدة. إنه كما قال شادى ابن خليل.. أحد المناضلين الحقيقيين الذين ساهموا بالكلمة الحقيقية، الكلمة الطلقة وذلك لخدمة القضايا الجماهيرية ورفع المعاناة عن كاهل الشعوب المغلوبة على أمرها. لهذا وذلك ظل السيد حافظ منسياً ومهمشاً إن صح التعبير فى زمن الانفتاح الساداتى، زمن الردة، زمن الارتزاق بالفن وتشويه الثقافة ومسخها، ومما زاد من شدة الحصار المضروب عليه وجوده فى الإسكندرية بعيداً عن القاهرة والبعد عن القاهرة كما قال أحد الدارسين يعنى البعد عن مركز السلطة السياسية والثقافية والفكرية.. كل هذه العوامل جعلت السيد حافظ يكاد يكون مجهولاً لدى طبقة عريضة من المثقفين فى الوطن العربى – خاصة هنا فى المغرب.ومساهمة منى فى إعطاء هذا الكاتب حقه والتعريف به وبتجربته المسرحية وبرؤيته الجديدة المميزة فى عالم المسرح العربى، فإنى أقدم بحثى هذا وهو دراسة تحليلية لإحدى مسرحياته المعنونة بـ"ستة رجال فى معتقل بـ/500 شمال حيفا".وحتى يكون بحثى هذا مستوفياً فإنى سأعمل على تقسيمه إلى بابين وخاتمة، والباب يشمل فصلين، سأحاول فى الباب الأول أن أرصد التجريب فى مسرح السيد حافظ حيث سأقف فى الفصل الأول عند الحركة التجريبية فى المسرح المصرى خلال السبعينات، أما فى الفصل الثانى فسأتحدث عن موقع السيد حافظ داخل هذه الحركة التجريبية، وفى الباب الثانى سأقف عند دراسة المسرحية وسأعالج فى الفصل الأول القضايا التى أثارتها المسرحية، وفى الفصل الثانى سأتناول الجانب الجمالى أما الخاتمة فستكون بمثابة تقييم عام للبحث ككل.وأنا مقبل على هذا العمل أجد نفسى محاصراً بمجموعة من الصعوبات – خاصة وأنى أقدم لأول مرة على عمل بمثل هذا الحجم – لعل أهمها قلة الدراسات التى تناولت مسرح السيد حافظ، ولكن بإشراف الأستاذ مصطفى رمضانى على بحثى هذا – والذى أعتز بإشرافه – فإن كل الصعوبات ستتبدد وتتلاشى نظراً لخبرته الكبيرة وتعامله القريب مع المسرح باعتباره باحثاً وناقداً مسرحياً. لذا فإن توجيهاته ونصائحه ستكون لى أهم مرجع وخير سند بل ستكون بمثابة مواقف نقدية مهمة اعتمد عليها.والله المعين تمهيـــدلا يمكن تقييم الفن فى أى مرحلة من المراحل، أى الحكم عليه بالجودة أو بالرداءة، بالتطور أو بالجمود (شكلاً ومضموناً) دون النظر إلى المراحل التى سبقته، لذا فإننا عندما نتناول المسرح التجريبى فى مصر خلال السبعينات، يتحتم علينا الرجوع إلى الوراء قليلاً لنعرف المستوى الذى استطاع المسرح العربى بلوغه فى الستينات، فبغير هذه العملية التى لاشك فى نجاحها لا يمكن بأى حال من الأحوال أن نصدر حكماً موضوعياً فى حق هذه المرحلة.لا يختلف اثنان فى أن المسرح المصرى سجل أخصب مراحل حياته وأجملها خلال الستينات، لاعتبارات تتعلق بهذه المرحلة، ذلك أننا عندما نتحدث عن أى إنتاج فكرى أو فنى لابد وأن نرصد العلاقة التى تربطه بالواقع الذى ظهر فيه، باعتبار أن العلاقة التى تربط الفكر بالواقع الذى ظهر فيه علاقة جدلية تتصل بحركة الناس وبالوعى وبالثقافة والتكوين النفسى والحضارى.. علاقة وطيدة مباشرة وجدلية متفاعلة مع حركة المجتمع، ولما كانت فترة الستينات فترة حاسمة وخطيرة فى تاريخ أمتنا العربية ومصر بصفة خاصة – لأنها مرحلة الصراع المرير مع العدو الصهيونى – كان لابد وأن تعرف نهضة مسرحية جادة تواكب تحديات المرحلة، كما كان للخطوات الجريئة التى اتخذتها ثورة 23 يوليو 1952 فى المجال الاقتصادى والاجتماعى والتى أسفرت عن صدور قوانين يوليو لسنة 1961 الاشتراكية والميثاق الوطنى لعالم 1962 الدور فى تهيؤ المناخ لحركة مسرحية حقيقية صنعت فنانيها ومبدعيها، فأنشأت المسارح فى كل مكان وترجمت الأعمال المسرحية العالمية, وبرزت على الساحة أسماء لامعة أمثال توفيق الحكيم فى الطعام لكل فم، الأيدى الناعمة، ويوسف إإدريس فى الفرافير، والمهزلة الأرضية.. وميخائيل رومان الكاتب المتمرد فى الدخان.. ورشاد رشدى وسعد الدين وهبه ومحمود دياب وغيرهم.لكن ما كادت فترة الستينات تنتهى حتى خيمت هزيمة 67 بظلامها الدامس على الحياة الثقافية والفكرية ليس فى مصر فحسب بل فى الوطن العربى كله، معلنة ميلاد عهد جديد طرح فيه الإنسان العربى أكثر من سؤال من أجل البحث عن أسباب النصر وتجاوز الهزيمة، إن البداية المأساوية التى شهدتها سبعينات هذا القرن كانت سبباً فى انهيار المسرح العربى، وخاصة المسرح الذى كان يحمل بعض الأحلام والتصورات الإيديولوجية بسبب انهيار الإنسان العربى نفسياً وعسكرياً، كما كانت سبباً فى بروز المسرح التجريبى طمعاً فى تجاوز الهزيمة على المستوى الفنى على الأقل، فقد ظهر جيل جديد من الكتاب يحمل هماً كبيراً: هم الهزيمة المرة وهم الإنسان القلق، وهم الحرب وتحرير الأرض والإنسان.. كل هذه العوامل ستتضافر فى تكوين نفسية وعقلية إنسان ما بعد الهزيمة.إن مرحلة السبعينات مرحلة حاسمة اتسمت بالعنف والغضب على الواقع، كما اتسمت بالعمل الجاد الهادف الذى يروى ظمأ الإنسان المتعطش للحرية والديمقراطية: حتى كانت هزيمة حزيران 1967 التى أبانت عن إفلاس الهياكل السائدة فى المجتمع العربى وبذلك صار التفكير جاداً أكثر فى خلق هوية مميزة للمسرح العربى .وقد أخذ المسرح المصرى بعد الهزيمة ثلاثة اتجاهات متعاكسة، الاتجاه الأول مثله مسرح القطاع العام، إلا أنه لم يحافظ على النفس الذى انطلق به فى الستينات، أما الاتجاه الثانى فتمثل فى مسرح القطاع الخاص الذى قام بدور خطير فى إفساد الحركة المسرحية، والاتجاه بالمسرح بعيداً عن دوره الإنسانى إلى مخاطبة الغرائز الشهوانية خدمة للزمن الانفتاحى.أما الاتجاه الثالث فمثله مسرح الهواة الذى قام بنشاط مكثف وايجابى لصالح الحركة المسرحية لدرجة جعلت البعض يعتبره المسرح الوحيد الذى فتح ذراعيه للجماهير فى فترة انهار فيها المسرح بمعانيه العميقة والرسولية والإبداعية، إضافة إلى دوره الكبير فى مقاومة السقوط والتردى، هذا الصنف هو الذى أعطى لنا المسرح التجريبى أو الطليعى. ذلك هو واقع المسرح المصرى طيلة السبعينات، واقع مهزوم لأن الهزيمة عششت فوق رءوس الجميع رؤساء ومرءوسين فنانين ومفكرين.. وكل من يمشى على هذا الوطن – المصرى – حاملاً هم أمته سواء كان مواطناً بسيطاً. أو داخل موقع من مواقع السلطة لكن هل هذا الغبن وتلك الهزيمة ظلتا تلاحق الكل؟ أو لم ينج من مطارقها أحد؟ أو لم يوجد من رفض الهزيمة وأصر على تجاوزها؟ هل مات الحلم فى النفوس وقبر الأمل؟ أو لم يعمل أحد على تطوير تقنيات المسرح ويطرح أشكالاً جديدة بأسلوب يتفق مع الوضع الجديد؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه فى هذا الفصل
البــــاب الأول

موقع الســــيــد حــافــظداخـــلالحركة التجريبية فى مصر خلال السبعينات
الفصل الأول : الحركة التجريبية فى مصر خلال السبعيناتالفصل الثانى : موقع السيد حافظ داخل المسرحية التجريبية الفصل الأول
الحركةالتجريبية فى مصر خلال السبعينات وجود المسرح التجريبى فى مصر ومنها فى العالم العربى ظل منذ ظهوره محط جدل ونقاش حادين بين كثير من النقاد والدارسين، بين رافض ومؤيد. فهناك من رأى أن ظهور المسرح التجريبى نتيجة طبيعية لموجه الشك والتساؤل التى يطرحها الفنان المسألة تتعلق إذن بإشكالية الهوية فى المسرح العربى هل هناك فلسفة جمالية خاصة بالإبداع العربى؟ هل يملك الفكر العربى استقلاليته المجردة من التبعية للغرب (...) إن مثل هذه الأسئلة وغيرها تبقى مشرعة فى ظل تلك التحديات التى يعرفها المجتمع العربى، وهى نفسها الأسئلة التى ولدت حركة تجريبية جادة فى المجال الدرامى ابتداء من الإبداع مروراً بالنقد وصولاً إلى التنظير . فقد أحس الفنان العربى وهو يتعامل مع المسرح التقليدى بأن هذا المسرح قد عفا عليه الزمن ولم يعد صالحاً للتواصل بينه وبين المجتمع. كما لم يعد فى مستوى التكثيف مع الواقع الجديد لأن الحياة تزداد كل يوم تعقيداً. فلابد إذن من شكل جديد يتلاءم مع الوضع الطارئ. لذا أصبح لازماً على المغامرة العلمية والتخلص من قيود السلف.وللتأكيد على البيئة الزمانية يكفى أن أشير إلى أن الفترة التى كتب فيها نعمان عاشور مثلاً مسرحية المغماطيس ليست هى الفترة الزمنية التى كتب فيها السيد حافظ مسرحية "مدينة الزعفران" فالأولى كتبت فى الخمسينات فترة الزعامة الشعبية لعبد الناصر أى فترة التحرر والاشتراكية والثانية كتبت بعد الهزيمة، وشتان بين المرحلتين. والحقيقة أن التجريب ظهرت بوادره وإرهاصاته الأولى خلال الستينات مع توفيق الحكيم ويوسف إدريس ، وإلا فبماذا تفسر وجود مسرحيات مثل يا طالع الشجرة "الفرافير" وأننا ربطنا فكرة التجريب هذه بإشكالية البحث عن الهوية فى المسرح العربى، فقد حاول يوسف يوسف إدريس وهو يبحث عن ذات المسرح العربى أن يتجاوز القواعد التقليدية من خلال رؤية فنية جديدة أو مغامرة إبداعية جديدة إن صح التعبير على مستوى منهج العمل والنص وكذا القضاء المسرحى، وقد اختار من السامر الريفى شكلاً للعرض ومن الفرفور طريقاً للأدوات، هذا التجاوز أو هذا الانعتاق من المقاييس القديمة والدخول فى أخرى جديدة وهو معادلة للبحث عن طريق جديد وفتح أبواب جديدة فى كل ما يتعلق بالعمل المسرحى ، نفس الشىء يمكن تكراره مع توفيق الحكيم فى مسرحية "يا طالع الشجرة" وهو ما أكده كذلك الدكتور كمال عيد فى ظل اجتياح الآداب العربية التى اجتاحت أوروبا منذ نهاية الأربعينات (1949) على يد يونسكو وبكيت وأدموف وأربال وغيرهم، ووصول هذه التيارات الفكرية إلى مصر فى الستينات عرضت بعض الأعمال على خشبة المسرح المصرى، وقدم مسرح الجيب دراما (يا طالع الشجرة) ومن الثابت أن الحكيم قد تأثر بهذا الاتجاه الأوروبى فى أشكاله الفنية فقط وإن لم يستطع التخلص من موقفه الفكرى القديم . ولكن الذى يمكن تسجيله عن توفيق الحكيم أنه لم يستطع المزاوجة بين هذا الشكل الفنى الدخيل وموقفه الفكرى التقليدى. ومن ثم ظل عمله ناقصاً ورؤيته مشلولة، قولنا هذا يفضى بنا إلى أن التجريب كشكل فنى ورؤيته الجديدة لم يكتمل فى مصر إلا بعد هزيمة 1976؛ لأن هذه الهزيمة سوف تؤثر على الأدب والفن والفكر: إن حرب حزيران بما حملته من مرارة الهزيمة والخيبة كان لابد أن تفرز رؤية جديدة وأن تعطى كتابات مغايرة كتابة عنيفة من الواقع الواقف موقف الرافض الغاضب .فالتجريب يرتبط بالواقع وبمن يصنع هذا الواقع؛ يقول عبد الكريم برشيد : إن التجريب كتعبير فنى فكرى هو بالأساس محاكاة للتغير الواقعى اجتماعياً ونفسياً سياسياً وفكرياً، ومن هنا يكون للتجريب الغربى معنى لأنه ثورة تسير بمحاذاة ثورات أخرى يمكن حصرها فى الثورة السياسية والصناعية والدينية والفكرية . فالتجريب إذن هو الموازى Parallele لسلسلة الثورات والمتغيرات التى تشهدها المجتمعات على جميع الأصعدة. لذا اعتبره عبدالكريم برشيد بمثابة ثورة فى العالم الغربى تساير ثورات أخرى فى الميدان السياسى والصناعى والدينى والفكرى، والحقيقة أننا عندما نتكلم عن التجريب فى العالم الغربى يمكن أن ننظر إليه من زاويتين، تطور الفكر الغربى من جهة والحرب العالمية الثانية من جهة أخرى، إن أهم فكرة يقوم عليها الفكر الغربى هى تمجيد حرية الإنسان على المستوى الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، فالإنسان حر فى التفكير وفى التغيير والملكية هذه الحرية ستجعل الإنسان الغربى يطرق كل الأبواب فى كل المجالات دون الخوف من أى رادع دينى أو أخلاقى مستنداً على الشعارات التى رفعتها الثورة الفرنسية، من جهة أخرى فإن هذا الفكر خاصة بعد الثورة الصناعية الكبرى أصبح ينظر للإنسان كوحدة بيولوجية ومن ثم كوحدة إنتاجية، مما يعنى غض النظر عن الجانب الروحى فى الإنسان (قتل الإنسان)، هذا المنطق الذى ساد التفكير الغربى انعكس سلبياً على الإنسان، فتمجيد الحرية أدى إلى انهيار الأخلاق والنزول بالإنسان إلى مستوى البهيمية فى كثير من تصرفاته، والى تفكك الأسرة.. وقد عملت الحرب العالمية الثانية على تعميق هذه التناقضات فانتاب الإنسان الغربى موجه من الشك عبر عنها بمجموعة من الأسئلة: من أنا؟ ما قيمتى فى هذا الوجود؟.. فالأزمة إذن وجودية ميتافزيقية "أما الانهزام الغربى فهو انهزام وجودى متافيزيقى انهزام الإنسان أمام صمت الكروان وانغلاقه وعبثه " فلا شىء حقيقى سوى العبث والضياع، موجة الضياع والقلق هذه عبر عنها الفنان الغربى المسرحى بدخوله التجريب (يونيسكو وبكيت) كحوار متواصل بين المبدع والجمهور الإنسان العربى لم يعرف أزمة وجودية ولا ميتافزيقية. لم تتفكك أسرته ولن تنهار أخلاقه ولم يعرف ثورة صناعية وإنما عرف هزيمة عسكرية أمام عدو متغطرس بجنون القوة، ولدت لديه نوعاً من التعقيد الذهنى والإحباط النفسى والشك فى مصداقية الأنظمة السياسية التى تتحكم فى رقاب الناس، فرفض كل الحلول الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التى لم تجلب إلا الخراب والهزيمة، هذا الرفض للواقع المصرى سيمتد بتأثيره ليشمل الجانب الفنى والفكرى والثقافى فى حياة الإنسان المصرى حتى كانت هزيمة 1967 التى أبانت عن إفلاس الهياكل السائدة فى المجتمع العربى، وبذلك صار التفكير جاداً فى خلق هوية متميزة للمسرح العربى . فالتجريب فى مصر لم يأت نتيجة مخاض فكرى أو نتيجة تجديد حاصل فى بنيات المجتمع الاقتصادية والسياسية والفكرية انعكس على الجانب الفنى فقط وإنما جاء كذلك نتيجة لعدة عوامل لأخرى؛ فهو من جهة تقليد للغرب، ومن جهة أخرى نتيجة انهزام عسكرى حضارى سياسى وتاريخى، فدخول الإنسان العربى المصرى كان متزامناً مع دخول الإنسان العربى عهد الهزيمة، فهل استطاع التجريب أن يكسر ما كان سائداً؟ وهل استطاع أن يؤسس رؤية جديدة للانسان والعالم والفن؟ ما هى خصائصه الفنية والتقنية؟ وهل استطاعت الجماهير أن تتفاعل مع هذا الشكل المسرحى أم ظل هذا العمل غريباً عن الإنسان المصرى؟ وأخيراً هل يمكن الحديث حقاً عن وجود التجريب أم أنه مجرد مغالطة ولعب بالمصطلحات؟إن هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها إلا من خلال الوقوف عند أهم الأعمال التجريبية التى عرفتها الساحة المصرية وكذا الوقوف عند النقاد وملاحظاتهم، فبغير هذه العملية لا يمكن أن نصدر حكماً موضوعياً ونزيها فى حق هذا الفن والعاملين فيه، وحتى لا نظلم التجريب كشكل مسرحى جديد يجب ألا نغفل العامل الزمنى، إذ أن هذا الشكل المسرحى إذا ما قيس زمنياً فإنه لا يزال فتياً مما يعنى قلة الأعمال التجريبية كماً ونوعاً، فأول عمل تجريبى بالمعنى الأعلى للكلمة يرجع إلى سنة 1970 – وإن كانت هناك إرهاصات أولى فإنها لم ترق إلى مستوى التجريب – ولسنا نبالغ إذا قلنا إن التجريب فى مصر طيلة السبعينات ظل مقروناً باسم السيد حافظ لمساهماته الكبيرة ولوضوح رؤيته التجريبية من خلال رصد بعض الأعمال التجريبية فى مصر وقفت عند حقيقة ثابتة وهى أن المبدع لم يدخل التجريب لخلق شكل مسرحى جديد فقط، وإنما استجابة لحالة الواقع المصرى المتردى كذلك، منطقياً يعنى الاستجابة لحالة الجمهور الذى لم يكن فى مستوى تفهم وتقبل هذا النمط الجديد نظراً لتفشى الجهل والأمية وعدم إدراكه لذاته.. إن التجريب الفنى والفكرى بابه موصود لأنه حوار غير موصول بين المبدع والواقع، إنه رؤية مغايرة وأدوات فنية جديدة لواقع لا يريد أن يكون جديداً أو مغايراً .وقد أدى هذا الموضوع إلى شرخ وهوة عميقين بل إلى قطيعة طويلة وحادة بين طرفى المعادلة المسرحية، وغياب الجمهور معناه قتل المسرح "لا أشمل بكلامى هذا جمهور المثقفين لأن هؤلاء ظلوا ملازمين ومتابعين للحركة المسرحية فى مدها وجزرها" وإنما أقصد بذلك الطبقة العريضة من الشعب التى انجرت وراء المسرح التجارى والتى لم يكن ارتباطها به محض الصدفة بل بقرار سياسى كما يقول السيد حافظ "لقد تحول الجمهور من صفوف المسرح الجاد إلى المسرح التجارى بقرار سياسى غير معلن يهدف إلى تجهيل الجمهور وبعده عن موقفه الوطنى .وهناك سبب آخر أدى إلى تخلخل العلاقة الحميمية بين المبدع والجمهور وتدميرها فى كثير من الأحيان ويتمثل فى جهل بعض الفنانين – ولا أقول الكل- بخصوصية الجمهور المصرى (تكونيه النفسى – الاجتماعى..) إذ عمل هؤلاء على مخاطبة الجمهور من أبراج عاجية بلغة جديدة لا يفهمها، فكان التجريب من هذه الناحية عملاً تعسفياً لم يألفه الجمهور بسهولة ولم يرتح له بسرعة " فكان أن صارت بعض الأعمال غريبة عن الجمهور.. وبذكر حادثة طريقة تؤكد رأيه أثناء عرض مسرحية كليوباترا – مسرحية شعرية – أن سيدة من حى شعبى ترتدى ملاية لف كانت تجلس فى الصف الأول عندما سمعت أول جملة فى المسرحية انتفضت واقفة وهى تزعق يا لهوى.. دى مش عربى. وهذا يوضح إلى أى حد يمكن أن تصبح بعض التجارب غريبة عن الجماهير العادية ومن العبث إخراجها لهم .لكن هذا لا يعنى أن الأعمال التجريبية التى عرفتها الساحة المصرية فى السبعينات ظلت بعيدة، فلسنا نبالغ إذا قلنا إن الفنان التجريبى ارتبط بالجمهور أكثر مما كان معروفاً من ذى قبل "فالمسرح التجريبى أولاً وقبل كل شىء نشأ على يد الهواة، وقد أجمع الباحثون والدارسون على الإشادة بدورهم فى الحفاظ على الطابع الإبداعى والرسولى للمسرح لأنهم رفضوا إطلاق الاتجاه بالمسرح نحو الارتزاق" رعاية هؤلاء للمسرح (التجريبى) جعله يعانق الجمهور بأحلامه وآلامه يذكره بحاضره، يرسم له آفاق المستقبل ثم يدعوه إلى الثورة والتمرد (الإيجابى) ويفضح أمامه عورة المجتمع والحكام والخونة ويطرح أمامه القضايا الوطنية والقومية والعالمية ويدعوه إلى أن يتخذ منها موقفاً، لقد كانت كتابة رفض: ترفض المهادنة والاستسلام بل كانت دعوة مستمرة للتحريض والاستفزاز. ولا يخفى علينا أن التجريب عاصر ثلاثة أحداث مهمة فى مصر منها نكسة 1967 التى يقول عنها عبد الكريم برشيد إن نكسة 1967 وما حملته من مرارة الهزيمة والخيبة كان لابد أن تفرز رؤية جديدة وأن تعطى كتابة مغايرة، كتابة عنيفة تقف من الواقع موقف الرفض الغاضب ، وحرب أكتوبر التى أعادت للإنسان المصرى والعربى الثقة فى النفس والأمل فى المستقبل والكرامة وأكدت أن الإنسان العربى قادر على صنع المستقبل إذا ما توفرت له الإمكانيات، فكان لهذه الحرب تأثير ايجابى على الحياة الفنية والفكرية، لكن هذا التأثير سرعان ما تلاشى وتبدد مع ضباب الخيانة والاستسلام، ابتداءً من مفاوضات الخيمة بالكيلومتر 101 وانتهاء بمعاهدة اصطبل داود التى حطمت ثمار أكتوبر وما صاحب ذلك من مقاطعة عربية للنظام الساداتى، وقوانين استثنائية إضافة إلى شبح الانفتاح الذى دمر الأخلاق والإنسان والاقتصاد.. ولنذكر من جديد: هزيمة 67 الانتفاضة الطلابية 1972، أحداث 17، 18 يناير 1977، صلح كامب ديفيد، سياسة الانفتاح الاقتصادى 74 مظاهرات أول يناير 75 ترسانة القوانين الاستثنائية كقانونى حماية القيم من العيب وحماية الجبهة الداخلية، استحداث نظام المدعى الاشتراكى فى التشريع المصرى.. إن هذه الخريطة التى طبعت التاريخ العربى المصرى انعكست على المسرح التجريبى الذى وقف منها موقف الرفض والصدام فى حين تقبلها المسرح التجارى فكان أن ظلت الرؤية السياسة وخاصة قضية الديمقراطية هى المحور الذى تدور حوله كل الكتابات التجريبية، لقد كان أكثر القضايا التى أولاها جيل السبعينات كما رأينا هى قضية الحرية السياسية وكرامة الإنسان المصرى فى مجتمع يفتقد التقاليد الطبيعية للعلاقة بين الحاكم والمحكوم" فقد ظل المسرح التجريبى مفتوحاً للجماهير كاشفاً عن عورة المجتمع ونظام السادات، مقاوماً السقوط والاستسلام والتطبيع من خلال غسل دماغ الجمهور من العفونة التى حاول النظام ترسيخها فى عقل الإنسان المصرى بالتوعية والتحريض والتنوير وهذا ما نلمسه بشكل واضح فى مسرح السيد حافظ (أبوذر الغفارى، حكاية الفلاح عبد المطيع..) كما عمل على تعرية الواقع اللاديمقراطى رافضاً مصادرة الفكر والتعبير والاعتقاد فأصبح التجريب بحثاً متواصلاً لرصد الظاهر السلبية فى المجتمع معبراً عن روح الشعب ومدافعاً عن قضاياه القومية والوطنية، هذه الخاصية هى التى ميزت المسرح السبعينى ككل. والمسرح التجريبى بصفة خاصة من المراحل السابقة، وهذا ما أكده مصطفى عبد الغنى ففى الوقت الذى غلبت فيه الرؤية الاجتماعية والوطنية فى الستينات غلبت فيه الرؤية السياسية فى السبعينات.هذه الرؤية السياسية التى تحدث عنها مصطفى عبد الغنى كان من المفروض أن تمتد إلى الجانب الفنى، ذلك أن السؤال الذى ظل يراود المبدع هو كيف يصوغ هذه الرؤية السياسية فى قالب فنى جديد يتجاوز القيود لأن لن هذه الكتابة من جهة أخرى هى كتابة تأسيس لمسرح عربى، لقد سبق وأن أكدنا إلى أن التجريب كشكل مسرحى جديد جاء ثورة على المسرح التقليدى الذى لم يستطع أن يماشى الواقع الجديد، ولإنجاح هذه الثورة فإنه قد استجاب للدعوة العلمية خاصة العلوم التجريبية القائمة على التجريب المخبرى، فكانت الأعمال التجريبية تقدم فى حدود ضيقة أو أمام جمهور معين (مثقفون.. أساتذة جامعات.. دارسون.. باحثون..) قبل عرضها أمام الجمهور، فلا يخرج المبدع جنينه للوجود إلا بعد أن يتأكد من اكتمال أعضائه، ولعل أهم جانب كان يركز عليه هو الجانب الفنى.ولما كان التجريب حركة تأسيس وتأصيل لمسرح عربى تنتقى فيه أشكال البناء التقليدية (العربية)، كان لابد وأن يبحث المبدع عن أشكال أخرى تنبثق من الجماهير وتتحدث عنها، فبدأ التفكير فى إعادة النظر فى الصيغ التى تسربت إلينا من الغرب والشك فى مصداقيتها بل ورفضها.. وعلة ذلك عند هؤلاء أن الخطاب المسرحى يملك دائماً حق تجديد أدواته وتقنياته تبعاً لتغير البيئة الزمانية والمكانية.وإذا وقفنا عند المسرح فى السبعينات نلاحظ أن هذه المواقف ظهرت بشكل كبير فى المسرح التجريبى الذى رفض كتابه أن يأتوا بنصوص مسرحية وفق نماذج عربية فسعوا إلى التمرد على الشكل الدرامى القديم والتحرر من القيود الأرسطية التى كانت تقيد حركة الفنان المسرحى، فلا قدسية إذن للوحدات الثلاث (الزمان، المكان، الحدث) ولا قدسية كذلك لثلاثية الخط المسرحى (بداية – وسط – نهاية) الفصل بين الأنواع المسرحية من تراجيديا وكوميديا.. فتشابكت هذه الأنواع، وكان المسرح عبارة عن فسيفساء تجمعت فيه كل الألوان المسرحية أملاً فى خلق شىء جديد يؤصل المسرح ويعربه " فالفنان حر فى الحركة يحب كل الأشكال التى تخطر على باله. لأن المسرح أولاً وقبل كل شىء خطاب، وتوصيل الخطاب يتم عبر أشكال مختلفة ومتنوعة، فلابد إذن من التعرض لها بل وابتكار أخرى غير معروفة، وإلا ما معنى الإبداع إذا لم يكن هناك خلق ومغامرة.. كما يبدو هذا الجموح فى تحطيم عناصر الشكل المركب واتساق اللغة الواحدة والقوالب التقليدية والشخصيات والحوار إلى غير ذلك من المفاهيم التقليدية" وليس عيباً أن نجد الفنان التجريبى فى السبعينات يمزج بين كل هذا الخليط فقد سبقه ذلك العلماء التجريبيون خاصة علماء النبات، الذين كانوا يمزجون أو (يفلحون) بين الفروع المختلفة فأعطتهم التجربة كائناً نباتياً جديداً لم يكن له وجود من ذى قبل.لجأ الفنان التجريبى دائماً إلى إطار الثورة على القديم (المسرح التقليدى) إلى التراث لأنه وجد فيه الوعاء الحقيقى للقومية العربية، الذى يمتزج فيه الماضى والحاضر والمستقبل ويحدد رؤية الإنسان العربى وعقله ووجدانه بأبعاده الاجتماعية والثقافية، فاستلهم المبدع التاريخ والأساطير والحكايات والرموز وغير ذلك، كما هو الشأن عند السيد حافظ (ظهور واختفاء أبى ذر، حكاية الفلاح عبد المطيع..) حيث نلاحظ تمرداً واضحاًَ على الأساليب الواقعية والطبيعية ليس هروباً من الرقابة التى كانت تشد الخناق على المبدعين وإنما غيرة على القومية العربية المفقودة، فعمل المبدعون على تحديد مواقع التراث من التحولات القومية والمحلية اجتماعياً وثقافياً وسياسياً. الفصل الثانى
موقع السيد حافظ داخل المسرحية التجريبية
للبيئة الزمكانية دور خطير فى خلق وتوجيه الإنسان المبدع، فالزمن تراكمات الماضى وترسبات الحاضر، والمكان بما يحمله من تجليات الحاضر فالحاضر غرس الماضى. والمستقبل يجنى الحاضر: إنها دورة زراعية خصبة مستمرة مؤثرة ومتأثرة بيئية مكانية أمدتها بشحنات أسمنتية ومواد عضوية، لذا فإن الحديث عن السيد حافظ هو فى الحقيقة حديث عن تاريخ مصر وحضارتها فى الحاضر والماضى فى إطارها الإقليمى ومحيطها العربى (زمان + مكان + إنسان).فالسيد حافظ شأنه شأن أبناء مصر ورث حضارة عريقة وهو ابن لأمة عظيمة وسمت التاريخ بميسمها فورث عنها العالم والفكر والفن كما ورث عنها الكرامة والمجد والأرض، فغاظه أن تضيع الأمانة ويسقط صرح الأجداد، فوقف من شبح الهزيمة الأسود رافضاً ساخطاً فى وجه عالم الظلم والقهر.. يقول سعد أردش "إن هذا الكاتب ينتمى إلى جيل عاش حياته ويعيش عصر التحرر والاشتراكية والعدالة والضيق من كل ما كان يثقل كواهل الأجيال السابقة وما حاربت من أجل الخلاص منه أجيال 1919، 1946 وما قمت من أجله ثورة 1952 وما تلاها" .لقد ربط السيد حافظ مصيره بمصر فعاش أحلامها وانتصاراتها وفرح بها، وعاش انتكاساتها وانهزاماتها فرفضها، رفض أسبابها ومسببيها: قال لا للهزيمة، لا لأسباب الهزيمة، لا للواقع اللاديمقراطى، لا لضياع فلسطين، لا للاعتراف بالعدو، لا للحلول الاستسلامية.. فامتدت هذه (اللا) لتشمل كل شىء عند السيد حافظ من الواقع إلى الفن.إن جيل السيد حافظ هو جيل المعاناة والإحباط، هذه المعاناة كانت تضرب بجذورها فى كل الاتجاهات سياسياً وثقافياً واجتماعياً، فعلى المستوى السياسى ستترك مجموع الأحداث الخطيرة التى عرفتها مصر بدءً من نكسة 1967 مروراً بإجهاض نصر أكتوبر، وكامب ديفيد والانفتاح الاقتصادى، والقوانين الاستثنائية، أثراً خطيراً فى نفس المواطن، فقد نتج عن تلك الأحداث تخلخل فى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وترتب عن سياسة الانفتاح الاقتصادى بروز طبقة برجوازية سيطرت على المواقع الحساسة فى هرم السلطة وعلى اقتصاد البلاد، فى حين ظلت الغالبية العظمى من أبناء الشعب، تعانى مرارة الحرمان فى حق العمل والتعليم والصحة.. فانتشرت البطالة والرشوة وارتفعت الضرائب وكثرت المخدرات وغيرها من السموم التى تؤكد على فساد المجتمع.أما على المستوى الثقافى فإن البرنامج الذى انتهجته الدولة فى هذا المجال كان يتماشى وتوجهها السياسى والاقتصادى، فكان أن انحدر المستوى الثقافى انحداراً رهيباً نتيجة الحجر المفروض على الكتاب من جهة، وبروز الثقافة التجارية كثمرة للواقع الانفتاحى من جهة ثانية، فكان على المبدعين الذين حملوا على عاتقهم رسالة المسرح بنية الحجر المفروض على الكتاب من جهة، وبروز الثقافة التجارية كثمرة للواقع الانفتاحى من جهة ثانية، فكان على المبدعين الذين حملوا على عاتقهم رسالة المسرح بنية وإخلاص إما مواجهة الثقافة الانفتاحية أو الكف عن الكتابة، فى حين فضل البعض الآخر مغادرة البلاد حاملاً قضية وطنه وأمته فى كفه مفضلاً المنفى والنضال على حياة الذلة ومنع الفكر.. وذلك كان خط السيد حافظ – أما من بقى داخل البلاد فقد مورس عليه الحصار فظل مهمشاً بسبب البعد عن مراكز السلطة الثقافية والسياسية المحتكرة من نخبة معينة متمركزة فى مدينة واحدة هى القاهرة، وهذا الوضع أفرز حالة من الرفض ظهرت بشكل كبير فى ميدان المسرح خاصة عند السيد حافظ.فإذا كان جيل كاتبنا قد كُتب عليه أن يكون كبش الفداء الذى يدفع الثمن غالياً من لحمه ودمه بسبب هذه السياسة العرجاء التى انتهجها النظام والتى كانت سبباً فى سلسلة الهزائم العسكرية والحضارية، فإنه فضل أن يكون الصخرة الصلبة التى تتكسر عليها كل المحاولات المحمومة المضادة لإرادة الجماهير، فأطلق صرخته التاريخية ضد الواقع المريض بسياسته وثقافته وفنه.. لأنه رفض أن يرى أبناء شعب يسقطون فى مستنقع الهزيمة.ولما كان من الصعب دراسة النص المسرحى سواء عند السيد حافظ أو غيره بمعزل عن الواقع الذى ظهر فيه (لا أغفل هنا الجانب الإبداعى عند الكاتب) أعنى الواقع السياسى والثقافى، ونحن نعلم أن هذا الواقع كان يسير فى اتجاه معاكس لإرادة الإنسان والفن، كان لابد أن نجد عنده – السيد حافظ – نصاً لا كالنصوص: نصاً كله ثورة وتمرد لأن صاحبه منذ البداية حدد موقفه وموقعه، فهو رافض للواقع السياسى الاقتصادى والاجتماعى منحاز للفقراء والكادحين ضد المعتقلات والحجر على الفكر (أبو ذر الغفارى، حكاية الفلاح عبد المطيع..) ومن جهة ثانية ساخط على القواعد البالية لأنها ترسم اتجاهاً واحداً للإبداع، وهذا الاتجاه عنده يقتل الابتكار والخلق، فاحتضن الشكل التجريبى وتبناه، لكن كيف دخل مجال التجريب؟ ما الذى يميز رؤيته الفنية والفكرية؟إن دخول السيد حافظ مجال التجريب كان دخولاً شرعياً، ذلك أن حالة الجمود الذى وقعت فيه الثورة الناصرية ولدت نوعاً من اليأس والغضب الداخلى اللذين انفجرا بشكل عفوى مع هزيمة 1967. هذه الثورة (الثورة الناصرية) جاءت لتحرير الإنسان المصرى والعربى مما يثقل كاهله وتحقيق الأهداف التى حاربت من أجلها الأجيال السابقة، فطرحت المبادئ الستة للثورة، فتعلق بها الإنسان وكان لهذه المبادئ أثر كبير على الحياة السياسية والثقافية، لكن هذه الثورة وقعت فى مستنقع الجمود نتيجة البيروقراطية والانتهازية والوصولية.. ففقدت الجماهير الثقة فيها ناهيك عن عدم التطبيق الفعلى للمبادئ الستة سواء من طرف الحاكم أو من طرف المحكوم، فكان نتيجة ذلك هزيمة 1967 التى أجهضت حلم الجماهير فى الثورة فعم اليأس والإحباط والقنوط. فما أشبه هذه اللحظات بتلك الفترة الحزينة التى اجتاحت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والتى كانت وراء موجة العبث.. هذا الغبن ازداد عمقاً.خلال السبعينات تحت رحمة الانفتاح الاقتصادى والقوانين الاستثنائية وغير ذلك من القوانين التعسفية كما سبق وأن أشرنا هذا الوضع المشين أجج نار الغضب فى صدر الإنسان المصرى الذى خرج متظاهراً ساخطاً متمرداً فى كتاباته وتفكيره، وإذا عدنا إلى السيد حافظ فإننا نجده لا يشكل استثناء عن هذه القاعدة، من هنا فالتجريب لديه يشكل نوعاً من الرفض، لكن هذا الرفض لم يكن عبثاً كما هو الشأن فى الغرب أو بدون هدف. إنما هو متولد عن حاجات داخلية وعن أسس موضوعية توجب التغيير لا فى المجال الثقافى فحسب، والتجريب عنده شمل الكتابة وأدوات الكتابة والرؤية.. وإلا لم يكن ليستحق لقب الثورة، لأن الثورة تغير جذرى لكل شىء، تناولت هذه الكتابة موضوعياً قضايا إنسانية مثل علاقة الحاكم والمحكوم (حكاية الفلاح عبد المطيع) وحقوق الإنسان والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية (أبو ذر الغفارى – مدينة الزعفران..) وجمالياً حطمت قواعد المسرح البالية من أرسطو إلى بريخت، وهذا ما يظهر بشكل واضح فى كتابات السيد حافظ، فما هى ملامح الكتابة عند السيد حافظ جمالياً وفكريا؟ وما هو موقعه داخل الحركة التجريبية فى مصر ككل؟إن الحياة لم تعد بسيطة هادئة هدوء الإنسان فى القرن السادس عشر أو السابع عشر، فإذا كانت الحياة فى ما مضى تتحرك بمتتالية حسابية فإنها اليوم تتحرك بمتتالية هندسية، وكلما ازدادت الحياة سرعة إلا وازدادت حركة وتولدت حرارة أكثر، فعالم اليوم كثير التناقض والتعقيد سريع الحركة والجديد بين اليوم والغد يمكن أن تتغير خريطة العالم، يمكن أن تنشب حرب، يمكن اكتشاف سر خطير.. والإنسان يزداد قلقاً وخوفاً وسرعة فى تفكيره وتمرده وغضبه لأنه يعيش عصر القلق، لا أريد بهذا استحضار معارفى وإنما أريد أن أؤكد أنه من السخافة والسذاجة أن نجد كاتباً اليوم يكتب بنفس الطريقة التى كتب بها فنان أو مبدع فى القرن السادس عشر أو السابع عشر، فإذا كان موليير قد كتب مثلاً البخيل فى القرن السابع عشر فإنها تتلاءم قالباً ومضموناً مع حركية الحياة وبساطة الفكرة، أما أن نخضع مشاكل اليوم أو مواضيع الساعة لمقالب الأمس فإنه من العسف بمكان، فهل يعقل أن يسافر إنسان اليوم على سفينة شراعية لعبور الأطلسى متحملاً المخاطر والتعب لقضاء حاجته فى أمريكا وهو يجد أمامه السفن ذات المحركات الضخمة والطائرات العملاقة؟ فإذا كان هذا لا يعقل فكيف يعقل الأول؟ كان كاتبنا أكثر إدراكاً لهذه الحقيقة، فعمل على تجاوز الموروث والسائد، لكن عملية التخطى هذه لا يمكن أن تتم إلا عبر ثنائية الهدم.والبناء : هدم التقليدى وتأسيس الآخر مكانه، وتماشياً مع النمو الطبيعى فإن العملية لابد وأن تمر عبر عدة مراحل من أجل الوصول إلى الصيغة النهائية الكاملة، لذا فإن البناء الفنى عند السيد حافظ يختلف من مسرحية إلى أخرى، إن إحساس الكاتب بأنه يحمل مضامين مغايرة ألزمه بأن يبحث لها عن أشكال مسرحية مغايرة وفى انتظار أن يعثر عليها فلابد من حيث يجب البدء أى من هدم المسرح فى شكله التقليدى وذلك ما فعل، قد يكون هذا الهدم فوضوياً فى البداية لأنه لم يعط البديل الفكرى الفنى ولكنه عدم ضرورى أولاً لتحطيم قدسية الأوثان المسرحية، وثانياً لتوكيد الشعور بالحاجة إلى مسرح آخر بعد هذا نسأل ما هى ملامح الكتابة التجريبية عند السيد حافظ.( )إن الهدم معناه تدمير الشىء وإزالته من مكانه لإقامة الآخر بدلاً عنه، وهذا لا يعنى أنه يشمل جزءً دون الآخر، حتى وإن كان الهدف من عملية الهدم هو إزالة الجزء دون الكل فحتماً سيتصدع الجانب الآخر وينهار نتيجة التزابط وتماسك أعضائه وهذه حقيقة كل بناء مرصوص متماسك، وفى حالة عدم سقوطه – أى الجزء الآخر - فإنه لن ينجو من عملية الترميم، والبناء المسرحى لا يختلف فى هذا البناء المعمارى. فهو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.قولنا هذا يقضى بنا إلى أن عملية التجديد عند السيد حافظ شملت كل البناء بدءً من الوحدات الثلاث (أزمان – مكان – حدث) واللغة وما إلى ذلك.. لا أجمع النقاد على نعت عمله بأنه ثورة باعتبار أن الثورة تغير جذرى لكل الأدوات الفاسدة، وذلك حقيقة كل الثورات سواء كانت ثقافية فكرية أو سياسية، وحتى لا تقع حركته التجريبية فى مستنقع الجمود والركون فإنه لم يحصرها فى كيان خاص لا يسمح بالتجديد وهذا ما ذهب إليه كذلك عبد الكريم برشيد يمكن أن نقول بأن كل مسرحية لها بناؤها الدرامى الخاص فهو فى كل إبداع جديد يجرب شكلاً جديداً( ).ولما كانت الثورة فنية بالدرجة الأولى فإن أهم ما شملته هو جانب الشكل، ولعل أول ما يثير انتباهنا بالدرجة الأولى، هو أن السيد حافظ لا يحترم قانون افصل بين الأنواع المسرحية من تراجيديا وكوميديا وملحمية و...، بل إن هذه الأشكال تكاد تختلط فيما بينها لتعطى عملاً من نوع خاص يختلط فيه الضحك بالبكاء والفرح بالحزن (حكاية الفلاح عبد المطيع.. ستة رجال فى معتقل ب500 شمال حيفا وهذا الخلط هو الذى أعطى للعمل الفنى طابعه الإبداعى والتجريبى القائم على المغامرة العلمية المخبرية، كما لا يحترم قانون تقسيم النص المسرحى إلى ثلاثة أو أربعة فصول، بل يستحضر تقنيات جديدة بأنه دائماً يعيد النظر فى الصيغة التى تسربت إلينا من الغرب ففى حبيبتى أميرة السينما يقسم النص إلى لقطة أولى ولقطة ثانية أو إلى عدة جسور كما فى ستة رجال فى معتقل ب500 شمال حيفا أو إلى ثلاثة حدود…أما إذا انتقلنا إلى الوحدات الثلاث فإنها ستنال أكبر ضربة على يد السيد حافظ، فهو لم يتناول الزمان والمكان كما طرحا من قبل، بل يقدمهما فى صورة غريبة وغير واقعية وغير منطقية فى نفس الوقت، فمثلاً فى مسرحية كبرياء التفاهة فى بلاد اللامعنى ويقدم الزمان كالتالى، أيام العصر الذرى الحجرى البرونزى الملامح فى القرن الفوضوى. فعن أى زمان يتحدث السيد حافظ؟ إن هذا الزمان لا وجود له فى دنيا الواقع على ما يبدو لأن الإنسانية لم تعرف قط فى تاريخها عصراً حجرياً ذرياً برونزياً وإنما عرفت عصراً حجرياً ثم بعد آلاف السنين عصراً برونزياً وبعد عدة قرون عصراً ذرياً، ولكن بالرغم من ذلك فإن هذا العصر موجود وبالتأكيد إنه عصرنا الذى نعيش فيه، عصر الفوضى والرعب النووى والحروب وقانون الغاب، إنه موجود فى ذهن القارئ.إن هذا الجمع بين هذه المتضادات هو فى الحقيقة جمع لتناقضات هذا العصر المتقدم تكنولوجياً المتخلف حضارياً (حجرياً) فى قيمه، فى طغيان المادة عليه، وغياب المبادئ الإنسانية، أما فى الحانة الشاحبة.. فالزمن يقدمه كالتالى:بعد أحداث 5 يونيو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق